مقال بقلم د/ ياسر حسان: كيف تبني الأمم نفسها "بدراسات الجدوي؟

الدكتور ياسر حسان اقتصادي وقيادي بحزب الوفد المصري
الدكتور ياسر حسان اقتصادي وقيادي بحزب الوفد المصري

تلقيت دعوة منذ أسبوعين من كلية هارفارد لإدارة الأعمال لحضور ندوة في مدينة أبو ظبي عن التحول إلى الاقتصاد الرقمي وهو مجال اهتمامي، المتحدث الرئيس في الندوة هو الدكتور Sunil Gupta الأستاذ في جامعة هارفارد، المهم أنني شعرت من اسم الدكتور أنه ليس أمريكيًا والفضول دفعني لأبحث عنه، فاكتشفت أنه هندي تخرّج من جامعة هندية وحصل على درجة الماجستير أيضًا من جامعة هندية (Indian Institute of Technology)، وبعد ذلك سافر وحصل على الدكتوراه من أمريكا.. واكتشفت أيضًا أن عدد الأساتذة الهنود في الكلية ليس بالقليل، وأن البروفيسور المعروف Das Narayandas هندي، والمفاجأة الأكبر أن عميد كلية هارفارد لإدارة الأعمال البروفيسور Nitin Nohria هندي كذلك، والملاحظة الأهم أن جميعهم من الجيل الأول بمعنى أنهم ولدوا وتعلّموا وحصلوا على درجة الماجستير من جامعات هندية وبعدها انتقلوا لأمريكا. الهند دولة تعاني من نسبة أمية وفقر كبيرة، لكنها أعطت للتعليم أولوية وللتخطيط أهمية انعكس على مستوى خريجيها ثم على اقتصادها. 


عرفت الهند أن التعليم والتخطيط هما الوسيلة الوحيدة لنهوض الأمم، وبالبحث قليلاً ستكتشف أن الهند أنشأت فصولًا للتعليم في محطات القطار، وتحت الكباري، وحتى في العشش، واستعانت بمتطوعين ليعلموا الأطفال، وركزت في التعليم المتطوّر على جزء صغير من شعبها ليقودوا الجزء الأكبر.

  اليوم لن تجد شركة عالمية لا يرأسها هندي أو أحد أعضاء مجلس إدارتها هندي وجزء كبير من الإدارة التنفيذية فيها هنود، وفوق كل ذلك أصبحوا يعلّمون العالم الآن علوم الإدارة والهندسة والبرمجة في أكبر جامعات العالم.. الهند الآن إحدى دول BRICS التي نحضر مؤتمراتهم كضيوف.. والفضل "لدراسات الجدوي"!
 
هذا في الهند، أما في مصر فكان يمكن للقصة التي حكاها العالم المصري الفذ الدكتور فاروق الباز عندما جاء إلى مصر وكلفوه بتعليم مادة الكيمياء وهو حاصل على دكتوراه في الجيولوجيا أن تغير مجرى حياته ومجرى علم غزير انتفع به العالم، لولا القدر الذي جعله يقابل زميلًا له حاصلًا على دكتوراه في الفيزياء النووية وأجبروه علي تدريس الصوت والضوء وتحذيره للباز من قبول العمل، ثم وفاة زميله بعدها بعامين بسب حزنه على حاله وهو شاب لم يبلغ 28 عامًا.

 أما رواه الدكتور الباز ليس مجرد قصة عابرة استثنائية، إنما هي وصف لحالة مصر الحقيقية في هذا الزمن.. في هذا الزمن كان الإعلام يروج ويبالغ في مشروعات لم تتحقق، مثل مجانية التعليم ومكوك الفضاء والمشروع النووي.

  لقد تحولت مصر الأدب والعلم ما قبل 1952 إلى مصر الفنكوش، ضجيج بلا طحين..

  دول مثل كوريا واليابان اهتموا بالتعليم والصناعة، ونحن هبطنا سنة وراء سنة بمستوى التعليم إلى أن أصبحنا في المرتبة قبل الأخيرة في التصنيف، ووزير التعليم مع وزير الصحة والبيئة ضيوف شرف في أي وزارة، وهم في الأغلب المرشحون للتغيير. جامعاتنا أصبحت غير معترف بها حتى في بعض دول الخليج التي صدّرت مصر مدرسيها لهم في وقت من الأوقات، جامعات مصر خارج التصنيف في أكبر 15 جامعة في الشرق الأوسط.. التعليم والبحث العلمي انهار في مصر، ومن المستحيل أن نرى دولة متقدمة دون تعليم قوي وبحث جاد. عندما سُئل إمبراطور اليابان عن أهم أسباب تقدم دولته بعد هزيمة الحرب العالمية الثانية.. أجاب: "بدأنا من حيث انتهى منه الآخرون، وتعلمنا من أخطائهم وأعطينا المعلم حصانة الدبلوماسي وراتب الوزير". قصة الدكتور فاروق الباز كانت عام 1965 وقتها كان إجمالي الناتج المحلي لمصر يفوق إجمالي الناتج المحلي لكوريا الجنوبية، الآن كوريا الجنوبية ناتجها المحلي 5 أضعاف الناتج المحلي لمصر، واليابان 17 ضعفًا، رغم تقسيم كوريا وهزيمة اليابان.. لأنه ببساطة كل شئ لديهم "بدراسات الجدوى"، ونحن معظم الأشياء عندنا بدون "دراسات الجدوى".