بقلم عبد الله السناوي: صفقة القرن: أى سلام؟

عبارة «صفقة القرن»، التى ترددت أمام الكاميرات أثناء لقاء الرئيسين المصرى والأمريكى فى البيت الأبيض، بدت مبهمة فى صياغتها العامة ومفتوحة على التأويلات.


لم تشر العبارة المبهمة إلى موضوع الصفقة ولا اقتربت من طبيعتها.

على الرغم من ذلك لم يكن صعبا استنتاج أن الصفقة تتصل بالصراع العربى الإسرائيلى وتسوية القضية الفلسطينية، التى وصفت عن حق بـ«قضية القرن».

كما لم يكن صعبا استنتاج أن هناك شيئا ما يجرى خلف ستائر كثيفة، تتعدد أطرافه العربية وإسرائيل حاضرة فيه.

كل شىء بعد ذلك تساؤلاته أكثر من إجاباته.

باليقين لسنا أمام مشروع تسوية جديد يلتزم بأى مرجعيات وقرارات دولية بما فيها «حل الدولتين» ووقف الاستيطان الإسرائيلى فى الضفة الغربية.

لا توجد إشارة واحدة على أى استعداد إسرائيلى لعقد صفقة ما يتبادل أطرافها التنازلات والمصالح.

أى كلام آخر فهو تهويم فى فراغ التهيؤات.

على أى أساس تبرم الصفقة إذن؟
على الرغم من التنازلات الفلسطينية الجوهرية، التى قدمت منذ اتفاقية «أوسلو»، بدا الفشل عنوانا على كل محاولات التوصل إلى تسوية ما.

وقد استخدم تعبير «تسوية ما» على نطاق واسع لتمرير تلك التنازلات، التى لم يقابلها أى تنازلات من الجانب الآخر وظلت الحقوق الفلسطينية تتآكل من مرحلة لأخرى.

هل وصلنا الآن إلى التسليم الكامل، علنا ورسميا، بـ«سلام بلا أرض» ــ حسب نبوءة المفكر الفلسطينى الراحل «إدوارد سعيد» عقب اتفاقية «أوسلو» منتصف تسعينيات القرن الماضى؟

كان هناك دوما من هو مستعد فى العالم العربى أن يصدق همسات السلام دون فحص، أو أن يرى فى مخالب الصقور أجنحة حمام.

أرجو أن نستعيد ــ أولا ــ ما قاله وزير الخارجية الإسرائيلى «شيمون بيريز» لقادة عرب فى أجواء ما قبل «أوسلو» من أن المستقبل فى التعاون الاقتصادى وبناء شرق أوسط جديد، وذلك اختصاصه، بينما اختصاص رئيس الوزراء «إسحق رابين» إرث الماضى وتسويته.

ما هو مطروح الآن إلغاء إرث الماضى والحق فى الأرض، وتوسع «مشروع بيريز» بالاندماج الكامل فى الإقليم.
«بيريز» نفسه لم يتردد إثر اغتيال «رابين» أن يقول إن «القدس» سوف تظل موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل و«المستوطنات سوف تستمر وتتوسع».

وأرجو أن نراجع ــ ثانيا ــ توجهات وصلات الشخصيات الدولية، التى دخلت على ملف التسوية فى أوسلو وبعدها بمن فيهم «تونى بلير» رئيس الرباعية الدولية، لنكتشف دون عناء أنهم من مدرسة «بيريز».

إذا ما نظرنا إلى النتائج فأنها لا تساوى شيئا على الإطلاق، حركة فى المكان ولا شىء يتحرك.

وأرجو أن نتذكر ــ ثالثا ــ أن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية بدأت تقريبا بذات توقيت مفاوضات إنهاء الحكم العنصرى فى جنوب إفريقيا بعد تحطم سور برلين.

ضغطت الأزمتان على الحقائق الجديدة فى العالم وبدا أن هناك توجها غالبا لإنهاء النزاعين التاريخيين.

لماذا نجح القادة الأفارقة فيما فشلنا فيه؟
لم يكن «نيلسون مانديلا» أبرز وأهم قادة حزب «المؤتمر الوطنى الإفريقى»، لكنه لخص بصموده فى سجنه الطويل الذى امتد لسبع وعشرين سنة رمزية ملهمة لقضية مواطنيه السود.

كان هناك كثيرون غيره صمدوا خلف جدران السجون، جرى اختياره من بين ثلاثة رمزا لحملة دولية تطرح قضية الفصل العنصرى على الضمير الإنسانى.

نجحت الحملة وارتفع «مانديلا» إلى مستوى قضيته، تفاوض من خلف جدران سجنه على إنهاء الحكم العنصرى، وعندما أفرج عنه تراجع رفاقه خطوات إلى الخلف، اختاروه نائبا لرئيس المؤتمر الوطنى الإفريقى، ثم رئيسا له وأول رئيس أسود للجمهورية.

كانت القضية أهم من الرجال.
تلك الأثرة مكنت الأفارقة من حيازة السلطة السياسية فى صفقة أبقت المقادير الاقتصادية فى يد البيض.

لم تكن تلك الصفقة عادلة تماما ولكنها سمحت للسود أن ينهوا حكما عنصريا بشعا بأية معايير إنسانية.

لم يحدث شىء من ذلك فى الصفقة التى عقدت فى «أوسلو».

كانت أولى علامات الضعف فى الأداء الفلسطينى من يفاوض.

بدأت المفاوضات فى مدريد، قادها الدكتور«حيدر عبدالشافى» قبل أن يسارع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية «ياسر عرفات» فى فتح قناة سرية بـ«أوسلو» توصل عبرها إلى اتفاقية مع إسرائيل انطوت على تنازلات أكبر مما كان مطروحا فوق الموائد الرسمية.

لم يكن أحد ينازع «عرفات» على قيادة المنظمة، لكن المخاوف استبدت بأصحابها وجرى ما جرى فى «أوسلو».

كانت النتائج كارثية فى نهاية المطاف ــ سلطة فلسطينية منزوعة الصلاحية واحتلال منخفض التكاليف الأمنية.

المشكلة الآن أفدح، فمنظمة التحرير الفلسطينية لم يعد منها سوى اسمها، والانقسام الداخلى أخذ من أعدل القضايا الحد الأدنى من التماسك والاحترام، والنظم العربية باختلافاتها لا تعنيها كثيرا بقدر قلقها على مستقبلها عند رسم الخرائط الجديدة فى الإقليم بعد انتهاء الحرب على «داعش».

من يتحدث إذن باسم الفلسطينيين؟
وعن أى سلام يتحدث؟.. وما المقابل الذى يمكنه من أن يمرر أية صفقة محتملة؟

تلك أسئلة ملغمة لا مفر من مواجهتها.
هناك خشية حقيقية من أن تكون الصفقة دمجا مجانيا استراتيجيا واقتصاديا لإسرائيل فى الإقليم، فلا انسحاب من الأراضى المحتلة ولا توقف عن بناء المستوطنات وتهويد القدس، ولا سلطة فلسطينية لها الحد الأدنى من السيادة.

أخطر ما يقال لتبرير مثل ذلك الدمج أن «الحرب على داعش» تتطلب توحيد الصفوف العربية مع إسرائيل.

مثل تلك الرهانات سوف تفضى إلى فوضى عارمة فى الإقليم تهون بجوارها حمامات الدم الحالية.

لا يمكن أن يستقر حال على قهر ينسف أى حق فلسطينى ويستخف بأى أمن قومى.

ومسألة الأمن القومى حاسمة أيا كانت درجة الانكشاف الحالية للعالم العربى.

لم تكن مصادفة توقيت تزامن مباحثات واشنطن، التى تمهد أمريكيا لشىء ما لم تتضح معالمه الرئيسية فى القضية الفلسطينية، رفع العلم الكردى على المبانى الحكومية فى «كركوك» العراقية الغنية بالنفط فى خطوة تمهد لاستفتاء يضمها إلى إقليم كردستان.

التزامن يشير إلى أوضاع جديدة محتملة تتغير بمقتضاها موازين القوى فى الإقليم، دويلات تنشأ بعمليات جراحية على الخرائط، وصراعات مسلحة تعقبها حتى لا تتوحد الدويلتان الكرديتان غير المستبعدة فى سوريا والمتغولة على العراق بما يهدد بنية الدولة التركية، ودمج إسرائيل فى أى نظام إقليمى ينشأ على أنقاض الجامعة العربية ينفى عن القضية الفلسطينية مركزيتها وحقوقها العادلة.

مما هو مطروح الآن إجراء تعديلات جراحية على المبادرة العربية، التى تقضى بالتطبيع الكامل مقابل الانسحاب الشامل من الأراضى المحتلة منذ عام (١٩٦٧)، وفق الملاحظات الإسرائيلية عليها دون أية التزامات مقابلة تقتضيها أية صفقة ـ حتى بالمعنى التجارى!

هل بمقدور أحد أن يتحمل مسئولية صفقة من هذا النوع؟
لا توجد حجة واحدة يمكنها أن تدعى أن هناك شريكا إسرائيليا فى أية صفقة سلام ممكنة إلا أن تكون استسلاما كاملا.
الرئيس الأمريكى «دونالد ترامب» نفسه يكاد يتماهى مع اليمين الإسرائيلى فى أشد صوره تشددا وتعنتا، وهو ما قد يعنى ضغوطا متواصلة على الطرف الأضعف للوصول إلى «السلام المجانى»، وهو نوع من الوهم لا سبيل أن يقف على أرض.