بقلم د. أسامة الملوحي: أيها السوريون .. جنيف تبتلع أطفالكم
كلما أردت أن أكتب عن مفاوضات جنيف خشيت أن أنسى آخر رقم لها، فأتأكد وأتثبت، فكل الجنيفات بعد الأولى متشابهة متماثلة متطابقة.
الكل يعلم عن سويسرا، وعن جنيف تحديداً، أن فيها كل رموز الحياد والسلام، فهي مقر هام لمنظمة الأمم المتحدّة، ومقر "لمنظمة الصحة العالمية"، و"الصليب الأحمر"، ومقر "منظمة التجارة العالمية"، وكذلك مقر "منظمة الملكية الفكرية"، ومقر "لمنظمات حقوق الإنسان"، ومقر "لمنظمة العمل الدولية"، وفيها عقد الكثير من اتفاقيات السلم والسلام الدوليين، إلا مفاوضات القضية السورية فلم تفض رغم سباعيتها إلا إلى شراكة عالمية دولية في قتل السوريين ومن لم يشارك يتفرج.
تفرّج عالمي غير مسبوق ويزداد.
سويسرا قد تكون لكل العالم دولة للسلام ولكنها للسوريين دولة يوفر اللاعبون فيها الوقت اللازم للقتل والإبادة في سوريا.
وها نحن قد عدنا لجنيف مرة ثامنة.
قد يظن البعض أن الروس قد فشلوا، لأن جهودهم الحثيثة وجولاتهم العديدة وتفاهماتهم الجديدة في تهجين وتطعيم هيئة التفاوض في "الرياض 2" قد فشلت، وأن الحاضرين قد أفشلوا الرغبة الروسية والجهود الروسية لإعداد هيئة تفاوض جديدة تقبل ببقاء بشار الأسد.
ولكن الروس في الحقيقة إنما يختبرون ويقيسون في الرياض، لقد ظن الجميع أن مندوب بوتين بالرياض سيحضر الاجتماعات، ولكنه في الحقيقة سبق الوفود والأفراد وبدأ يراقب من بعيد ويقيس:
- هل وصل الجمع الثوري السوري العام إلى مرحلة الاستسلام والقبول ببشار الأسد ليترشح ويفوز في انتخابات مبكرة أم ليس بعد؟
أغلب الذين ذهبوا إلى الرياض، إذا استثنينا منصات النظام، خاضعون للضغط من الجمع الثوري السوري العام الذي يراقب الجميع في كل شاردة وواردة.
جمع ثوري سوري غير منظم وليس له إطار وهيكل، ولكنه متفق ومتحفز باتجاه واحد ورأي واحد: "لا مكان لبشار الأسد".
وكان المراد من مؤتمر الرياض جر الجميع إلى الخضوع لبقاء الأسد.
وبعد أن أجرى الروس الاختبار في الرياض ولم ينجح، فسيعودون إلى الميدان لإكمال ما بدؤوه أصلاً، وهو الحسم العسكري الكامل والسيطرة على الأرض كلها.
والعودة لجنيف ستعطي الوقت مجدداً لجولات عسكرية روسية مبيدة مهلكة لاستهداف ما تبقى من أراض محررة، فيكون هناك سحق للمزيد من المدنيين السوريين وبشكل كتلوي، مع هجمات برية ميليشياوية إيرانية لكسب المزيد من المناطق وقضم المزيد من الأراضي.
ومع وجود المزيد من الاجتماعات الأستانية فإنها ستحرص على تجميد البارد من الجبهات، وتفكيك الجامد منها بشكل نهائي، وسيتم التركيز على جبهات جوبر وحرستا التي استنزفت أقوى ما تبقى من الوحدات العسكرية لبشار الأسد استنزافاً مؤثراً.
"جنيف مضيعة جديدة للوقت تقتات على دماء السوريين": قول ليس لأحد المعارضين أو الثوار، بل هو لحبيب سلمان، أحد أعضاء الوفد الإعلامي المرافق لوفد النظام في آخر جولة في جنيف، وهو قول غاية في الدقة، ولكنه لا ينطبق على السوريين المؤيدين للنظام على اختلاف دوافعهم، بل يصف المدنيين المستباحين المستهدفين في المناطق المحررة.
الذين في الرياض غادروا سعداء ويتحضرون لمفاوضات مباشرة مع وفد النظام في جنيف ويقول أحدهم: "لن نترك هذه المرة وسيطاً بيننا وبين النظام، إذ لا نعلم ما ينقل وما يحرِّف.. سنتفاوض مباشرة".
سيتفاوضون مع وفد النظام وكل أفراد هذا الوفد من ضباط المخابرات برتب وبدون رتب.
سيتفاوض وفد الهيئة الجديدة مع أعتى أفراد مخابرات بشار الأسد وجهاً لوجه.
أجهزة المخابرات بكل أنواعها وفروعها ومندوبيها في الوزارات والسفارات هي يدا بشار الأسد.. ومفاوضو المعارضة سيستمرون في مفاوضة يدي بشار الأسد لقطع رأس بشار الأسد!
مفاوضة لإقناع أيدي النظام بقطع رأس النظام.. ولكن هذه المرة وجهاً لوجه.
سيذهب وفد جديد إلى سويسرا وسيوفر المزيد من الوقت للروس وللإيرانيين وللنظام لينفذوا الأمر الوحيد الذي لم يفكروا في سواه.. ألا وهو الحسم العسكري في كل أنحاء سوريا المفيدة وغير المفيدة.
جنيف تعقد فيها اللقاءات لإنهاء القتل ولكن لقاءات جنيف حول القضية السورية سترتد على السوريين وأطفال السوريين ناراً ونكالاً ووبالاً.. ويشترك في تنفيذ ذلك العالم كله، كل بطريقته.
كثيرون لا يعلمون أن في سويسرا رمزاً غريباً مفزعاً شاذاً لا يبعد كثيراً عن مكان لقاءات جنيف، وهو تمثالٌ نُصب في وسط مدينة بيرن- العاصمة السياسية لسويسرا- في عام 1546، وهو عبارة عن منحوتة لرجل يبتلع طفلاً صغيراً ويضع بإحدى يديه نصفه في فمه، وفي يده الأخرى كيساً يحتوي على بعض الأطفال المذعورين، والغريب أن علماء الآثار في سويسرا والخبراء لم يستطيعوا إلى اليوم معرفة قصة هذا التمثال القبيح ورمزيته ولماذا تم نحته على هذا الشكل الغريب.
لعلها رمزية تخص السوريين: "الوقت الضائع في جنيف موتٌ يبتلع المزيد المزيد من أطفالهم".