بقلم د. أحمد جلال: السياسة النقدية والهواء الطلق
أصدر البنك المركزى مؤخرا قرارا برفع سعر الفائدة 2% مرة واحدة، بعد أن كان قد رفعها 3% منذ ستة أشهر.
ومنذ صدور القرار الأخير تفاوتت ردود الفعل بين مساند للقرار، ومنتقد له، ومن لا يرى منطقا وراءه.
رأيى المتواضع أن قرار البنك المركزى برفع سعر الفائدة فى هذا التوقيت مأخوذ حرفيا من كتاب صندوق النقد الدولى، وأنه غير ملائم لواقع الاقتصاد المصرى.
إذا كان الهدف من رفع سعر الفائدة الحد من التضخم، ما أخشاه أن هذا الهدف لن يتحقق فى الأجل القصير، وأن رفع سعر الفائدة قد يدفع الاقتصاد نحو «ركود تضخمى»، أى تزامن التضخم مع بطء النشاط الاقتصادى.
ولنبدأ القصة من أولها. كلنا نعرف أن معدلات التضخم (الزيادة فى الأسعار) قفزت فى الشهور الأخيرة لمستويات غير مسبوقة (أعلى من 30%)، وذلك فى أعقاب تحرير الجنيه ورفع الدعم عن المحروقات. ولهذا السبب، ومن أجل تخفيف وطأة التضخم على المواطنين، اتخذت الحكومة عددا من الإجراءات منها زيادة المعروض من السلع الأساسية بأسعار مخفضة، وتنشيط الرقابة على الأسواق، وتوسيع شبكة الحماية الاجتماعية. هذه الإجراءات كانت لها آثار إيجابية على البعض، إلا أنها لم تكن كافية لحماية جموع المواطنين، خاصة الطبقة المتوسطة. من هنا ظهرت الحاجة إلى البحث عما يمكن اتخاذه من إجراءات إضافية فى الأجل القصير.
وبغض النظر عما إذا كان قرار رفع سعر الفائدة صدر بناء على اقتراح من صندوق النقد الدولى أم لا، قام البنك المركزى باتخاذ القرار. والحقيقة أن هذا الإجراء له منطقه: زيادة سعر الفائدة عن طريق تخفيض المعروض النقدى أو امتصاص السيولة من السوق. من المفروض أن يحد من الطلب على السلع المتاحة، مما يؤدى إلى انخفاض مستوى الأسعار. من المزايا الأخرى لرفع سعر الفائدة أنه يساعد على الحفاظ على قيمة الجنيه المصرى مقابل الدولار، نظرا لارتفاع العائد بالعملة المحلية مقابل العائد على العملات الأخرى. وأخيرا، هناك من يعتقدون أن رفع سعر الفائدة له أثر إيجابى على الادخار أيضا، لأنه يعوض، ولو جزئيا، الأثر السالب للتضخم على سعر الفائدة الحقيقى، أى سعر الفائدة الاسمى ناقص معدل التضخم.
أين هى المشكلة إذاً؟ المشكلة فى رفع سعر الفائدة للحد من التضخم أنها تقوم على فرضية أن التضخم ناتج أساسا عن ارتفاع الطلب الكلى- ممثلا أساسا فى الاستهلاك والاستثمار والتصدير- عن المعروض من السلع والخدمات. فى مثل هذه الحالة رفع سعر الفائدة من المفروض أن يقلل من الطلب إلى أن يحدث التوازن المنشود عند مستوى منخفض للأسعار. فى حالتنا الراهنة، المشكلة ليست فى ارتفاع الطلب، ولكنها فى ضعف الإنتاج والإنتاجية وارتفاع التكلفة. الاقتصاد المصرى يعمل حاليا بأقل من طاقته، حيث إن معدل النمو يدور حول 3%، بينما قدرة الاقتصاد على النمو دون دفعات قوية حوالى 4.5%. ثانيا، تكلفة الإنتاج ارتفعت فى الشهور الماضية، خاصة بعد تحرير الجنيه وزيادة أسعار المدخلات المحلية. ثالثا، لايزال مناخ الأعمال فى مصر معوقا للاستثمار والتشغيل، ويظهر ذلك جليا فى تدنى ترتيب مصر فى التقارير الدولية المعنية بقياس مناخ الأعمال. فى ظل هذه الظروف، زيادة سعر الفائدة تعنى زيادة التكلفة، وبالتالى ارتفاعا فى الأسعار. فضلا عن ذلك فإن ارتفاع سعر الفائدة له أضرار أخرى، أهمها زيادة العبء على الموازنة العامة، وهى أكبر مقترض فى السوق المحلية. بالإضافة إلى ذلك، فزيادة سعر الفائدة على الاقتراض لا تشجع الاستثمار الخاص فى مشروعات جديدة، أو فى تمويل رأس المال العامل بالنسبة للمشروعات القائمة.
هل هذا يعنى أن المحظور قد وقع وأن هذه هى نهاية المطاف؟ بالطبع لا. الحقيقة أنه كان ولايزال من الممكن تبنى حزمة من السياسات البديلة التى أعتقد أنها أفضل فى ظل الأوضاع الراهنة. هذه السياسات لها شقان: الشق الأول متعلق بزيادة الإنتاج والإنتاجية عن طريق تحسين مناخ الأعمال، وزيادة المنافسة، والحد من الاحتكار. فيما يتعلق بمناخ الاستثمار، اقترحت فى مقال سابق الاستفادة من التجربة المغربية، وعدم التعويل بشكل كبير على قانون الاستثمار. بالنسبة لزيادة المنافسة، مطلوب قدر أكبر من تكافؤ الفرص أمام كل المستثمرين المحتملين، والسماح بعدد أكبر من المستوردين، وتمكين جهاز حماية المنافسة من ممارسة سلطاته. الشق الثانى، وهو عكس ما ينادى به الصندوق، هو تشجيع الطلب على منتجاتنا، خاصة فيما يتعلق بالنشاطات التصديرية. فى نفس الاتجاه، من المفيد للاقتصاد التوسع فى الاستثمار العام، خاصة فى البنية الأساسية.
ما سوف نلاحظه فى السياسات البديلة أن القليل منها يقع ضمن مهام البنك المركزى. وهذا التوجه يتفق مع خبرات دول كثيرة، خاصة فى إطار تعاملها مع الأزمة الاقتصادية التى عصفت بها فى 2007. الفكرة الأساسية هى أن السياسة النقدية والبنوك المركزية لا تستطيع أن تلعب دورا مهما فى التأثير على الاقتصاد الحقيقى، وأن دور السياسة المالية أكثر فاعلية. هذا لا يقلل من أهمية دور البنك المركزى، حيث إن دوره بالنسبة للاقتصاد كالهواء بالنسبة لنا، لا نعيره انتباها عندما يكون جيدا ونشكو منه عندما يكون ملوثا.