بقلم زياد بهاء الدين: سؤال محدد .. هل العمل بالسياسة جريمة؟

ينص الدستور على أنه «لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون» (مادة 95). ومعنى هذا أنه لا يجوز اتهام شخص بارتكاب جريمة ومحاكمته وادانته إلا اذا كان لهذه الجريمة ذكر ووصف فى أحد القوانين. فلا يمكن مثلا اتهام شخص بسرقة أمواله الخاصة أو بإهمال السؤال عن جيرانه أو بقضاء كل وقته على المقاهى لأنه لا يوجد فى القانون جرائم بهذا الوصف. وبالمثل فلا يجوز للمحكمة أن تعاقب المدان فى أية جريمة بعقوبات الجلد أو قطع اليد أو التعذيب لأنها ليست من العقوبات المنصوص عليها فى القانون المصرى.


وهذا النص من مقومات نظامنا الدستورى منذ عشرات السنين، وهو من أهم الضمانات التى تحمى المواطنين من تعسف الدولة وأجهزتها التنفيذية فى ابتداع جرائم ليس لها وجود فى القانون من أجل إقصاء الخصوم وإسكات الأصوات المعارضة.

يدفعنى إلى هذه المقدمة التداخل الخطير الواقع فى مجتمعنا بين الجرائم السياسية والأمنية المنصوص عليها فى قوانين مختلفة، وبين الممارسة المشروعة للعمل السياسى، وهو تداخل تمارسه الدولة ويحرض عليه الاعلام التابع لها حتى صار مقبولا لدى قطاع كبير من الرأى العام. وفى هذا المناخ يصبح التضييق على العمل الحزبى واعتقال المشاركين فيه لمجرد مزاولتهم العمل السياسى أمرا مقبولا فى المجتمع، كما يصبح الحديث عن اتهامات مبهمة مثل الاستهزاء بالبرلمان، والترويج لحقوق الانسان، ونشر الشائعات حول الأداء الاقتصادى للدولة، والتعرض لرونق القضاء، حديثا عاديا ومستساغا، دون ادراك لحقيقة أن هذا إخلال بأحد أهم الحقوق الدستورية، وهو حق العمل السياسى.

لا خلاف على أن حمل السلاح وتهديد أمن المواطنين وممتلكاتهم ومنشآت الدولة وأمنها جرائم خطيرة تستحق عقوبات صارمة وحاسمة، وأن الارهاب الذى يهدد الوطن يحتاج لدحره لتضافر جهود المجتمع كله وليس أجهزته الأمنية فقط. ولا يقتصر ذلك على مجرد حمل السلاح وزرع المتفجرات، بل يمتد إلى مجموعة أخرى من الجرائم لا تقل خطورة لأنها تساهم فى وقوع هذه الجرائم وتيسر لها السبل لتحقيق أهدافها، وعلى رأسها التمويل والتحريض والمساعدة.

ولكن هذه الجرائم الخطيرة والمنصوص عليها بوضوح فى قوانين العقوبات والارهاب شىء، بينما ممارسة العمل السياسى شىء مختلف تماما. العمل السياسى بالضرورة ينطوى على تأسيس أحزاب، وعقد اجتماعات للتحضير لها، وإصدار مطبوعات، ونشر فكر اقتصادى وسياسى معين، واتصال بصناع الرأى فى المجتمع، وبالنقابات المهنية والعمالية، وبممثلى قطاع الأعمال، وانتقاد الحكومة وسياساتها فى مختلف وسائل الاعلام، واستخدام قنوات التواصل الاجتماعى بحرية، واختيار مرشحين لخوض الانتخابات، ودعمهم، وتوفير التمويل لهم، كل هذه تصرفات قانونية تماما ومشروعة تماما وليس فيها أى تجاوز للدستور والقانون. والخطير أن يستدرج المجتمع إلى الاعتقاد بأن مجرد عقد اجتماع لمناقشة الأوضاع السياسية والاقتصادية، والانضمام لحزب، والدعوة لأفكار سياسية، جرائم تستحق الاعتقال والتحقيق والمحاكمة من منطلق أنها تصرفات تهدد استقرار الدولة وأمنها.

ما يهدد استقرار البلد وأمنه هو غلق المساحات المتبقية من العمل العام، سواء سياسى أم أهلى، لأن هذا هو ما يدفع لمزيد من الاحتقان ومزيد من الانقسام، ويترك الساحة مفتوحة لترويج الفكر التكفيرى والإرهابى واستقطاب عناصره، ويفقد المجتمع طاقة الشباب الإيجابية والإبداعية والاحتجاجية التى يحتاجها لكى يتجاوز أزماته وتحدياته الراهنة.

العمل السياسى فى إطار قانونى سليم ليس خطرا يهدد البلد، بل ضمانة لاستقراره ولانتظام عمل مؤسساته، ولنمو الحوار الصحى بداخله. والأجدر بالدولة بدلا من أن تحارب مزاولة الشباب للعمل السياسى، أن تشجعه وتدعمه أو على الأقل تكف يدها عمن لديهم الشجاعة والحماس والوطنية لخوض غماره.