مقال بقلم د/ ياسر حسان: نظرية المؤامرة في السياسية
اليوم، سأتكلم عن الجزء الثاني الذي أثارني كسياسي في مقال الواشنطن بوست وهي نظرية المؤامرة في السياسية (Conspiracy Theory).
نظرية المؤامرة أو خلق العدو.. كتب عنها ميكافيلي باستفاضة في كتابه "الأمير" وتطرق لها قبله ابن خلدون في كتابه "مقدمة ابن خلدون".. والحقيقة أن هذه النظرية هي عمود أساسي في السياسة، وبدونها قد لا تكون هناك سياسة، وأياً كان حجم العمل السياسي سواء كان حزباً أو دولة كاملة "فأنت لازم تخلق عدو".. فرئيس الحزب يبدأ حكمه باختلاق خلاف مع سلفه، ورئيس الدولة يبدأ ايضاً حكمه بالإرث الصعب من سلفه. والقاعدة أن وجود "عدو" هو ضمان للاستمرار بقاء السياسي وأحيانا لوجوده من الأصل.. وتطبيق نظرية المؤامرة يستلزم توافر ثلاثة شروط.
الأول هو وجود عدو، والثاني خلق خطر محتمل من هذا العدو، والثالث ابتكار حملة لمواجهة هذا العدو .. وخلق عدو محتمل هو الشرط الأسهل نسبياِ.. فهل تمثل إيران أو كوريا الشمالية خطراً حقيقياً على الولايات المتحدة الأمريكية؟!، طبعاً لا .. لكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي كان لابد من خلق عدو، فالقوة تحتاج لعدو لضمان بقائها حتى لو في شكل منظمات إرهابية أو دول محدودة الإمكانيات مقارنة بأمريكا مثلا .. أما الجزء الثاني وهو خلق خطر محتمل من هذا العدو هو الجزء الأصعب لأنه يحتاج لحدث أو موقف يستدعي مؤامرة من قبل مجموعات شريرة وقوية، غالبًا ما تكون بدوافع سياسية. ونظرية المؤامرة يعززها المنطق الدائري في التفسير لأنه يتم إعادة تفسير كل الأدلة ضد المؤامرة دون الوصول للحقيقة، بمعني أنك تدور وترجع لنفس النقطة، وفي ظل غياب أدلة ملموسة على حقيقتها، حيث تصبح المؤامرة مسألة إيمان وليس شيئًا يمكن إثباته أو دحضه لأنها تحتوي بعض الحقيقة والكثير من الباطل.
كاتب المقال "صمويل تادروس" قال إن النظام الحالي يستخدم مقاومة الإرهاب كضمان لوجوده، وهذا بالطبع حقيقي بنسبة كبيرة، لأن مقاومة الإرهاب هي مسئولية شعب ومجتمع بأكمله وليست مسئولية حاكم.. لكن في المقابل فأن التاريخ السياسي الأمريكي ملئ بنظريات المؤامرة، وتتداخل نظرية المؤامرة مع السياسة الأمريكية منذ نشأتها عام 1776 - وربما قبل ذلك.. لكنها اليوم قد تكون في محور الحياة العامة للشعب الأمريكي أكثر من أي وقت مضى في العصر الحديث.
علي سبيل المثال بدأ المواطن "دونالد ترامب" -قبل أن يكون رئيساً- سياسته السياسية ضد ترشح "أوباما" بأن الرئيس باراك أوباما ولد في كينيا، وبالتالي فهو غير مؤهل لمنصبه، وعندما لم تجد لها أذان صاغية، تراجع ترامب كذباً في مقابلة عام 2011 .. ومنذ أيام قالت "هيلاري كلينتون" إن المرشحة الديمقراطية للرئاسة "تولسي جابارد" "يتم إعدادها" من قِبل الجمهوريين لطرف ثالث يدير في عام 2020 .. كما وصفتها بـ "المفضلة للروس"، مما أدى إلى موجة من نظريات المؤامرة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وقديماً حذر القائد الشعبوي "جيفرسون" من أن الفيدراليين المؤسسين، مثل "ألكسندر هاملتون"، كانوا يخططون لجعل أمريكا ملكية في انتخاب 1800.
في المقابل اتهم بعض المحافظين "توماس جيفرسون" وأتباعه أنهم ضمن تحالف "The Illuminati"، وهي مجموعة من النخب الأوروبية كانت متهمة وقتها بالتآمر للإطاحة بالحكومات والاستيلاء على الممتلكات الخاصة وتدمير المسيحية في أمريكا.. كما أدى اغتيال "جون كينيدي" إلى ظهور العشرات من نظريات المؤامرة، التي بدأت من وليندون جونسون، كوبا، والمافيا، وحتى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية نفسها، ووصل الأمر إلى الاعتقاد بأن الاتحاد السوفييتي قد تسلل فعليًا إلى كل إدارة حكومية أمريكية.
وأشهر نظرية مؤامرة في التاريخ الأمريكي، هي اتهام وكالة ناسا بتزوير لقطات الهبوط على سطح القمر، ومازال واحداً من خمسة أمريكان يعتقدون أن الكذبة "الأكثر واقعية" هي أن أحداث 11 سبتمبر كانت مدبرة داخلياً. والتاريخ ملئ شرقاً وغرباً، قديماً وحديثاً بنظريات المؤامرة، وقد تكون قصة "كم إل سونغ" مؤسس كوريا الشمالية أغربها وأشدها وطأ في التاريخ.
ننتقل إلى الجزء الثالث والأخير وهو ابتكار حملة لمواجهة هذا العدو، والشعارات الشعبوية المنتشرة كثيراً في العالم اليوم هي عصب هذه الحملات مثل شعار حملة ترامب "اجعل أمريكا عظيمة مجددًا"، واختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون شعار "كلنا فرنسا" ليظهر نفسه كجامع لكل الفرنسيين.
وفي مصر ظهر شعار "تحيا مصر".. وهذه الشعارات الشعبوية تهدف إلى جعل كل ما هو عادي استثنائي.. في أمريكا اعتبر "أندرو كومو" أن أمريكا عظيمة بالفعل وأن شعار ترامب هو إعادة لزمن العنصرية والتمييز بين الجنسين وعدم التسامح مع المهاجرين.
وفي فرنسا كان شعار ماكرون كافياً لجمع أصوات المنافسين أمام منافسته مرشحة اليمين المتطرف "مارين لوبان"، ولو ترشح في جولة الإعادة أي مرشح آخر لربما لن يكون ماكرون هو الرئيس الحالي لفرنسا.
وفي مصر تجد كلمة "تحيا مصر" كشعار حتى لو كان في افتتاح كوبري أو طريق جديد، كإشارة لإظهار إنجازات الرئيس حتى ولو كان إنجازاً عادياً ومتكرراً في كل العصور.
يقول الخبراء إن الأشخاص والأطراف الذين يشعرون بالعجز ينجذبون إلى نظريات المؤامرة، لأنها تساعدهم في تقديم تفسيرات مريحة لمأزقهم .. ولأن السياسيين لا يمكنهم إرضاء الجميع فهم دائماً في مأزق.
أما أحدث تطبيقات نظرية المؤامرة فهي "المؤامرة بدون نظرية" أو Conspiracy Without Theory، وهو مجاز سياسي لشيء جديد وساد فجأة.. بمعني أنه لا توجد مؤامرة لكن توجد عقلية متآمرة.. والرئيس الأمريكي ترامب خير مثال على ذلك كما يقول الدكتور "روزنبلوم" من جامعة هارفارد، المؤلف المشارك لكتاب جديد اسمه "المؤامرة الجديدة والاعتداء على الديمقراطية": يقول "روزنبلوم" أن ترامب في كل مؤتمر يقوم بتأكيد أن خصومه لا يتركونه يعمل، والصحافة "فاسدة"، والديمقراطيون ينخرطون في "الخيانة" .. ويكاد يكون من المستحيل إثبات أو دحض هذه الاتهامات في اتساعها.
وفي النهاية، فأن الاختلاف في بين أنظمة الحكم الديمقراطية والأنظمة الشمولية في تطبيق "نظرية المؤامرة"، أنه في الدول الديمقراطية يستخدمونها كمعارك جانبية يكون تأثيرها محدوداً حتى وإن انحازت بعض وسائل الإعلام للترويج لها، لأن تنوع الإعلام وحرية الرأي تكفل بأن يكون هناك مساحة للحقيقة والرأي الآخر، بينما في الأنظمة الشمولية فنظرية المؤامرة جاهزة لتبرير أي فعل أو تصرف لأنها ضمان لبقاء الحكام، ويبقي المواطن تائهاَ وعليه عبء البحث عن ما يريح عقله ويشفي قلبه في ظل إعلام الخط الواحد حيث تتوه الحقيقة وتصبح سراباً صعب الوصول إليها ..