في ذكري احتفال الحزب الشيوعي الصيني بمئوية تأسيسه
تقرير من إعداد الدكتور/ ياسر حسان: هل يمكن أن تستمر معجزة الصين الاقتصادية؟
ربما ينبغي في البداية أن نجيب على عدة أسئلة قبل الخوض في هذا التقرير..
والسؤال الأول: هو لماذا يهتم العالم باقتصاد الصين؟
بوضوح لأن الصين هو أكبر اقتصاد في العالم من حيث القدرة على النمو، فالاقتصاد الصيني أكبر بخمسين ضعف مما كان عليه في عام 1980، وحالياً هو ثاني أكبر اقتصاد عالمي.
لكن ما الذي يعنيه ذلك لبقية دول العالم؟
ببساطة الصين هي مصنع العالم، تنتج الكثير من البضائع والمنتجات، ومصدر الطاقة الأول في العالم. فالصين على سبيل المثال تنتج %70 من أجهزة التكييف في العالم و%58 من الأحذية وغيرها الكثير والكثير. فإذا أبطأت الصين من إنتاجها فسيبطئ هذا التجارة العالمية كلها. الاقتصاد الصيني يعني مزيد من الثراء وهو ما ينعكس إيجابياً على العلامات التجارية العالمية. وبات واضحاً تأثير الطبقة المتوسطة المتزايدة في الصين على شراء كل ما هو غال. والصينيون ينفقون ما يعادل ثلث الإنفاق العالمي على السلع والمنتجات الفاخرة.
وعلى سبيل المثال فسدس أرباح شركة (بيربيري) البريطانية يأتي من الصين.. أيضاً لا يُخفي الصينيون ولعهم بالتكنولوجيا والأجهزة الحديثة، وهناك جهاز يباع في الصين من كل سبعة أجهزة تباع في حول العالم. وتصنع الصين 22٪ من صادرات التصنيع العالمية، ولأن هناك أكثر من 1.4 مليار شخص يعيشون في الصين، فلا شك أنها ستكون أكبر مستهلك للطاقة في العالم؛ لذلك هي مستهلك كبير لسلع ومعادن هامة مثل البترول والحديد والنحاس.
وحتى في السياحة لا يمكن إهمال الصين، فالصينيون ينفقون حوالي 227 مليار دولار سنوياً على السياحة الخارجية، كما أن الصين مستثمر رئيسي في مشاريع كثيرة حول العالم، فهي تبني سكك الحديد في كينيا وإثيوبيا، وجسوراً في كرواتيا وطرقاً في باكستان. كما ساعدت الصين دولاً عديدة حول العالم للخروج من الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2009. والصين حالياً تعد أكبر شريك تجاري لمصر حيث أصبحت مصر الشريك التجاري الـ 49 للصين، وثاني أكبر شريك تجاري للدولة العربية.
ومن الواضح أن كل هذه المساعدات والمشاريع ليست دون مقابل، فالصين تستغلها لتعزيز نفوذها السياسي العالمي.. في المقابل فإن النظام السياسي في الصين يظل منغلقاً على نفسه، ولا يمكن لأي شخص أن ينقل أمواله خارج البلاد مثلما يحدث في العالم الغربي. وتظل هنا المعضلة أن اقتصاداً صينياً منفتحاً على العالم يعني اقتصاداً صينياً أكثر ارتباطاً بالعالم الخارجي.
الفقاعة التي لا تنفجر أبدًا
يصف البعض الاقتصاد الصيني أنه "الفقاعة التي لا تنفجر أبدًا".. على الرغم من أن هذا الوصف لا يعتمد بشكل كبير على النظريات الاقتصادية، فكلمة "فقاعة" تجبرك أن تستبعد قوانين الاقتصاد التقليدية المعروفة. أما وصف تلك الفقاعة بأنها "لا تنفجر أبداً" فهو منصف بشكل كبير بسبب مرونة الاقتصاد الصيني المقاوم للأزمات، والذي نجا من تنبؤات لا حصر لها بالانهيار. وفكرة وجود فقاعات مستدامة مستوحاة من أبحاث اثنين من الفائزين بجائزة نوبل هما "بول صامويلسون" في عام 1958 و"جان تيرول" في عام 1985.
يقول العالمان إن الفقاعات الاقتصادية يمكن أن تستمر عندما يتجاوز معدل نمو الاقتصاد باستمرار سعر الفائدة. في ظل هذه الظروف يمكن أن تظل الفقاعة جذابة ومعقولة التكلفة مما يغري المشترين الذين تحتاجهم للحفاظ على أنفسهم دون تقزيم الاقتصاد، ويشبه البعض الاقتصاد الصيني بعدد من العمال من أجيال مختلفة، في كل جيل يستثمرون جزءًا من دخلهم في أصل عديم الفائدة جوهريًا مثل "شقة فارغة" ويخططون لبيعها عند تقاعدهم. ونظرًا لأن كل جيل لديه نفس الخطة، سيجد كل جيل مشترين بين أحفادهم للأصل الذي اشتروه من أجدادهم. نظرًا لأن جيلًا تالياً يأتي ولديه نفس الفكرة فلا داعي أبداً لكسر هذه السلسلة. فإذا كان الاقتصاد ينمو باستمرار فسيكون لكل جيل دخل ينفقه على "الشقة الفارغة" أكثر من الذي يسبقه، وسيسمح ذلك للبائع بكسب عائد كبير. وإذا تجاوز معدل نمو الاقتصاد معدل الفائدة، فسيكون هذا العائد أعلى مما يمكن أن تقدمه الودائع المصرفية. كان يُعتقد أن هذه الحالة المعروفة باسم "عدم الكفاءة الديناميكية" نادرة الحدوث، لكن في عصر أسعار الفائدة القريبة من الصفر بات الأمر مألوفًا جداً.
قد يكون معدل الفائدة في الصين يقلل من العائد الحقيقي لرأس المال في البلاد وذلك بفضل القمع المالي المستمر لرجال الأعمال. ولكن رغم ذلك يمكن أن تنشأ فقاعة طويلة الأمد، ووفقًا لورقة بحثية أعدها “Kaiji Chen” من جامعة Emory و “Yi Wen” من البنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس عام 2014. يقول الباحثان في نموذجهما إن رأس المال الخاص يربح عوائد مذهلة طالما أنه يمكنه الاستفادة من العمالة الرخيصة ومن بيع الشركات المملوكة للدولة إلى الشركات الخاصة، وهذا يعطي رواد الأعمال والمستثمرين الحوافز المالية للمغامرة بمبالغ كبيرة في سوق العقارات، وهم يعرفون في الوقت نفسه أن ربحية أعمالهم ستنخفض في النهاية مع ندرة العمالة.
وهذا يعطيهم الدافع لتنويع ثرواتهم في أصول أخرى ذات قيمة مثل العقارات. في هذا السيناريو ستواكب أسعار العقارات معدل العائد على رأس المال المستثمر، والذي ينبغي أن يكون أعلى من معدل نمو الاقتصاد ككل، ومع الوقت يصبح العثور على العمالة الرخيصة أكثر صعوبة، وتتضاءل عائدات رأس المال والممتلكات بشكل مطرد بالتوازي.
وقد تعرضت الصين بالفعل إلى هذا السيناريو، لكنها تمكنت من إدارة هذا التباطؤ. ففي عام 2016 دخلت الصين في حالة هشة، وكان مطورو العقارات يحتفظون بمخزونات هائلة من الشقق غير المباعة ويدينون بمبالغ مخيفة مماثلة للمقرضين، وعانت الصين أيضًا من الإنتاج المفرط في الصناعات الأولية مثل الصلب، والتي هددت بإغراق الاقتصاد في الانكماش.
كيف تعاملت الصين؟
الجواب هو ما يمكن أن نسميه بالعناصر الخمسة: إعادة هيكلة الاقتصاد وإعادة مزجه، بالإضافة إلى إعادة تمويل الأصول والخصوم وتناوبها وشطبها. أعادت الصين مزج تركيبة النشاط دون تقليل وتيرته، قللت الإنفاق على المناجم الجديدة ومصانع الصلب، وأنفقت المزيد على البنية التحتية. تم إعادة تمويل المشاريع الممولة بقروض بنكية قصيرة الأجل عالية الفائدة بسندات منخفضة العائد أصدرتها الحكومة، كما ألغت الصين القروض المعدومة (بما في ذلك قروض الظل) والعديد من الأصول المادية. تم إغلاق المناجم القديمة، وتم تطهير العشوائيات، كما تم منح الأسر النازحة المال للمساعدة في شراء شقق جديدة، وتم تمويل هذه الجهود في كثير من الأحيان من خلال قروض موجهة من البنك المركزي.
أدت عمليات التصفيات والإغلاقات والشطب إلى خفض ثروة البلاد، لكنها لم تقطع تدفق النشاط الجديد. في الواقع أدى الجمع بين الأموال الجديدة التي تم ضخها في الاقتصاد والقدرات القديمة التي تمت إزالتها إلى رفع الأسعار وتسريع نمو الناتج المحلي الإجمالي الأسمي، وقد أدى ذلك إلى إعادة الفجوة بين النمو وأسعار الفائدة، مما جعل مستويات الديون أسهل في تحملها.
استفادت الصين من هذا العناصر الخمسة في إضافة بعض نقاط القوة غير العادية والتي تتوافق أيضًا مع بعض المبادئ الاقتصادية التي يمكن أن تنطبق في أي مكان. وأظهر الضغط الانكماشي الذي واجهته الصين في هذه الفترة الخطرة أن هناك مجالًا لتحفيز الاقتصاد. ولأن أسعار الفائدة كانت أقل من معدلات النمو، فقد كان بإمكانها تحمل أي ديون لم تجرؤ على شطبها.
مشاكل الصين السياسية
تواجهه الصين عدة مشاكل داخلية اقتصادية وسياسية، نستعرض أبرز تلك المشاكل..
1- ملف الديمقراطية والحريات
قال رئيس أمريكا السابق "بيل كلينتون" للقرويين في الصين في عام 1998 وهم يستعدون للانتخابات القروية: "أفضل الفوز عن الخسارة، لكن كلما كانت هناك انتخابات ويقرر الشعب، يفوز الجميع".
في ذلك الوقت كان القادة الغربيون متحمسين لتجربة الصين الجديدة مع الديمقراطية الريفية. كانوا يأملون أن يؤدي ذلك إلى تغيير سياسي أوسع. الآن أصبح هذا الحماس في غير محله لأن الحزب الشيوعي أعلن بوضوح أن أيام المداعبة بالحرية السياسية المتواضعة في القرى قد ولت، ويجري الآن بذل أكبر جهد مضاعف للتأكد من فوز جميع مرشحي الحزب الحاكم دون معارضة تذكر.
لم يكن زرع الديمقراطية هي خطة الحزب الشيوعي عندما أدخل الانتخابات في الريف في عام 1988. وقتها كان الفساد متفشياً بين رؤساء الحزب في الريف وكان الكثير منهم غير أكفاء، وخشى الحزب الشيوعي من أن يثير غضب المزارعين الاضطرابات في البلاد. اعتقد المسؤولون حينها أن جعل رؤساء القرى أكثر عرضة للمساءلة يمكن أن يساعد في الحفاظ على الغطاء الشعبي للحزب، ولكن مما أثار استياء الحزب أن مرشحيه لم ينتصروا دائمًا. في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أعاد القادة الصينيون التأكيد على أن أمناء الحزب (المعينين)، وليس اللجان المنتخبة هم من يتمتعون بالكلمة الأخيرة في شؤون القرى. ومع الوقت تلاشت تدريجياً أحلام الغرب بانتشار الديمقراطية في الصين من القاعدة صعوداً الى رأس الهرم. ورغم ذلك ما زالت القرى تجري انتخابات كل ثلاث سنوات حسب مرسوم القانون، نتائجها تكون محسومة ومعروفة مسبقاً.
بالنسبة لـ 550 مليون شخص يعيشون في ريف الصين، يمكن أن تكون النتائج مهمة. يمكن أن يكون للقرارات التي يتخذها ممثلين القرية تأثير هائل على سبل عيش الناس. فهم على سبيل المثال يمارسون السلطة على حق استخدام الأراضي، التي تخضع رسميًا لسيطرة "جماعية" وليس أيًا منها مملوكًا للقطاع الخاص. في بعض القرى يتم تجميعها للزراعة على نطاق واسع أو للأغراض الصناعية.
في عام 2018 بدأ الحزب يدعو إلى بذل جهود شاملة لتنفيذ نظام يسمي "الحمل على كتف واحدة". يشير هذا الاسم إلى الطريقة التي تدار بها قري الصين، وهما عبارة عن هيكلان متوازيان، لجان القرى المنتخبة واللجان الحزبية. ويريد الحزب الحاكم الآن أن تكون عضوية كلتا اللجنتين واحدة، وأن يقودهما شخص واحد: سكرتير حزب القرية. وعادةً ما يضمن نظام المحكم عدم وقوف أي شخص سكرتير حزب القرية، ونادرًا ما يكون قادة القرية من الإناث. وأعربت بعض وسائل الإعلام المملوكة للدولة عن مخاوف من أن تركيز الكثير من السلطة في يد شخص واحد قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات متهورة دون رادع، لكن هذه مشاكل يمكن للحزب حلها في وقت لاحق. كما يعمل الحزب الحاكم على استشارة الأجهزة الرسمية في كل قرية، بما في ذلك الشرطة. وهذه الاستشارات يمكن أن تمنع ترشح مجموعة واسعة من الناس. مدينة "كونمينغ" الجنوبية الغربية على سبيل المثال لديها قائمة من طويلة من المجموعات الغير المؤهلة تسمى "7 ممنوعون و15 غير مناسبين". من بين الممنوعين أشخاص يعتبرهم الحزب الحاكم "ذوي وجهين سياسيًا". وتشمل الأشياء الغير مناسبة أولئك الذين لديهم "مشاعر دينية قوية"، كما تم حظر أولئك الذين لهم صلات بـ "قوى الشر والسود". وهذا مصطلح شامل يستخدم لوصف كل شيء من العصابات الإجرامية إلى الطوائف الدينية والشبكات العشائرية غير المصرح بها. في عام 2018 أطلق الحزب حملة مدتها ثلاث سنوات لقطع علاقات هذه القوى المناهضة لحكمهم مع القواعد السياسية الشعبية، وأعلنت النصر في أواخر العام الماضي مدعية أنها "عاقبت بشدة" 3700 من زعماء القرى، وأقالت 41000 من المخالفين من لجان القرى.
الديمقراطية في الصين تستخدم فقط لدعم الحزب الحاكم. تنص بعض اللوائح المحلية على ضرورة التماس آراء القرويين العاديين عند اختيار سكرتير الحزب. ولا يزال القانون ينص على أن الفائز في الانتخابات لزعيم القرية يحتاج إلى 50٪ على الأقل من الأصوات، وأن 50٪ من الناخبين المسجلين يجب أن يدلوا بأصواتهم حتى تكون الانتخابات صحيحة. لكن هذا هو الحد الأدنى خاصة عندما لا يسجل الكثيرون. منذ التسعينيات، انتقل العديد من القرويين في سن العمل إلى المدن. صحيح أن المهاجرين يستطيعون العودة للتصويت أو تعيين وكيل، ولكن لماذا يزعج نفسه عندما تبكون العملية والنتائج معروفة مسبقاً؟. ورغم أن نفس نسبة المشاركة مطلوبة لإجبار رئيس القرية على التنحي. ولكن عندما يكون الرئيس هو نفسه سكرتير الحزب، فإن سحب الثقة يتطلب الجرأة. في مقاطعة "غوانغدونغ" احتل سكان قرية "ووكان" عناوين الصحف العالمية عندما انتفضوا ضد رئيس حزبهم في عام 2011 وأجروا انتخابات حرة. في نهاية المطاف قام الحزب بضربه هناك بقسوة. إذاً فالأمل ضعيف إلى الديمقراطية، فالحزب الشيوعي يتوقع أن تسفر أي انتخابات عن النتائج التي يريدها.
لكن لابد من الاعتراف أن الحزب الشيوعي في الصين استفاد من وجود وباء كورونا بشكل كبير، واللافت للنظر أن سياسة الحزب في حقبة كوفيد -19 لم تنزعج من الغضب العام أو الانقسام داخل القيادة المحاصرة بعلامات الاستفهام حول كيفية الاستجابة للوباء. فقد ظهر الحزب أقوى وأكثر احتراماً للجمهور مما كان عليه قبل عام. في أواخر شهر يناير عام 2020 تحول الحزب من التردد والتعتيم إلى التعبئة الشاملة، ليس فقط للحفاظ على الوباء عند مستوى يمكن السيطرة عليه، ولكن لسحقه بالكامل. كان نجاح الصين في تحقيق ذلك وفي استعادة الحياة شبه الطبيعية في البلاد دون عودة ظهور فيروس كورونا، بمثابة هبة من السماء لدعاة الحزب. لم يكن هناك حاجة لتسليط الضوء على التناقض بين الظروف في الداخل والمعاناة الطويلة لدول الغرب. ساعد الوباء الحزب في إحكام قبضته السياسية وبث حياة جديدة في تنظيماته الشعبية.
وفي هونج كونج المضطربة استفاد الحزب الشيوعي أيضاً من وباء كورونا. فقد وضع الوباء حداً للاضطرابات المناهضة للحكومة التي اجتاحت المدينة منذ يونيو 2019. ساعدت قيود كوفيد المتعلقة بالتجمعات العامة، وكذلك المخاوف الصحية بشأن الانضمام إلى الحشود، في إبقاء شوارع الجزيرة هادئة. ومكن قيادات الصين من تنفيذ عدد كبير من الاعتقالات والانقلاب العنيف على مطالب السكان، مع سيطرة كاملة للصين على الإقليم لم يتوقعه حتى أكثر المراقبين تشاؤمًا. فرض قانون الأمن القومي الصارم في نهاية شهر يونيو. وبدأ القانون في تحويل هونج كونج التي اشتهرت ذات يوم بثقافتها الليبرالية السياسية إلى مكان يشبه إلى حد كبير مدينة في البر الرئيسي الصيني مع سيطرة الحزب بشكل كامل.
كان قانون الأمن القومي هزة بالنسبة للغرب، لقد أعطت قوة دفع للسياسيين في أمريكا من الجمهوريين والديمقراطيين، الذين يريدون أن تعامل بلادهم الصين بشكل أكبر كخصم، كما فعلت إدارة ترامب بالفعل. ربما شعر قادة الصين بالارتياح إلى حد ما لفوز "جو بايدن" بالانتخابات الرئاسية في نوفمبر. إنهم يرون أنه أكثر قابلية للتنبؤ به وأكثر حرصًا على التعاون مع الصين، على الأقل في مجالات مثل تغير المناخ والصحة العالمية، لكن الحقيقة أن الديمقراطيين يشعرون بالفزع مثل الجمهوريين من قسوة الحزب الحاكم في الصين، هناك القليل من التوقعات في بكين بأن فوز بايدن سوف يفتح حقبة جديدة من الانفراج، خاصة بعد انتهاكات حقوق الإنسان في عام 2020 في منطقة "شينجيانغ" أقصى الغرب واستمرار تفاقم الوضع هناك.
كل هذا أعطي من أجل الجرأة على الصين والدعوة إلى تحقيق مستقل في أصل وباء كوفيد -19. وخطوات الصين الإيجابية في ملفات مثل الوعد بخفض صافي انبعاثات الصين من ثاني أكسيد الكربون إلى الصفر بحلول عام 2060 ومساعدة الدول الأخرى على مكافحة الوباء، لم تفعل شيئًا يذكر لاستعادة ثقة الغرب. في عام 2020 ربما يكون النظام الحاكم في الصين قد ربح معركته السياسية في الداخل. لكن نجاحه في الخارج كان أقل بكثير مع استمرار سياسات القوة في الداخل واستعراض القوة المستمر للجيران في الخارج.
2- التنافس بين أمريكا والصين على جنوب شرق آسيا
خلال نزاعهما الذي دام 45 عامًا خاضت أمريكا والاتحاد السوفييتي معارك بالوكالة في جميع أنحاء العالم. لكن الحرب الباردة كانت في ذروتها في أوروبا، حيث كان السوفييت قلقين باستمرار بشأن تلاشي أقمارهم الصناعية، وكانت أمريكا دائمًا قلقة من أن حلفاءها أصبحوا لينين. ولحسن الحظ فإن المنافسة بين الصين وأمريكا مختلفة عن ذلك، والسبب إن القوات المسلحة لكلا الجانبين لا تحدق ببعضها البعض عبر أي خطوط أمامية، على الرغم من أن تايوان وكوريا الشمالية تعتبر مناطق توتر بين البلدين، لأن لكل منهما حليفاً في مواجهة متوترة مع أحدهما منذ عقود طويلة، ومع ذلك في التنافس بين القوتين تمتد جغرافياً إلى منطقة أوسع وهي جنوب شرق آسيا بأكملها. وعلى الرغم من أن المنطقة لم ترسم بعد خطوطًا واضحة للمعركة فإن هذا يجعل المنافسة بينهما أكثر تعقيدًا.
ينظر الناس عبر جنوب شرق آسيا بالفعل إلى أمريكا والصين كقطبين يدفعان بلدانهم في اتجاهين متعاكسين. على سبيل المثال، أولئك الذين يحتجون على الانقلاب العسكري الأخير في ميانمار يحملون لافتات غاضبة تهاجم الصين لدعم الجنرالات وتطالب أمريكا بالتدخل. الحكومات في تلك المنطقة تشعر بأنها تحت الضغط للانحياز إلى جانب أحدهما. في عام 2016 أعلن "رودريغو دوتيرتي" رئيس الفلبين بصوت عالٍ "انفصال بلاده عن أمريكا" وتعهد بالولاء للصين بدلاً من ذلك. هناك أيضاً ادعاء الصين أن كل بحر الصين الجنوبي يقع داخل مياهها الإقليمية، وقد أثار رفض أمريكا لهذا التأكيد خلافات مشتعلة في النادي الإقليمي الرئيسي للمنطقة وهو (رابطة دول جنوب شرق آسيا "الآسيان").
لكن من المتوقع أن تصبح لعبة شد الحبل بين البلدين أكثر شراسة لسببين.. أولاً، يتمتع جنوب شرق آسيا بأهمية استراتيجية هائلة للصين. إنه على أعتاب الصين، يمتد على طرق التجارة التي يتم على طولها نقل النفط والمواد الخام الأخرى إلى الصين وحيث شحن البضائع النهائية لاحقاً. في حين أن الصين محاصرة من الشرق من قبل اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، وجميعهم من حلفاء الولايات المتحدة الراسخين، على عكس منطقة جنوب شرق آسيا حيث تقل فيها العدائية للصين، مما يوفر إمكانية الوصول إلى كل من المحيطين الهندي والهادئ للأغراض التجارية والعسكرية. لكن هذا يحتاج إلى أن تصبح الصين القوة المهيمنة في جنوب شرق آسيا، لأن جنوب شرق آسيا ليس مجرد محطة على الطريق إلى أماكن أخرى.
السبب الثاني لاشتداد المنافسة عليه هو أنها من أكثر مناطق العالم أهمية، فهي موطن لـ 700 مليون شخص أكثر من الاتحاد الأوروبي أو أمريكا اللاتينية أو الشرق الأوسط. سيكون اقتصاد دول جنوب شرق آسيا لو كانت دولة واحدة رابع أكبر اقتصاد في العالم استناداً إلى تكلفة المعيشة بعد الصين نفسها وأمريكا والهند. وهو اقتصاد ينمو بسرعة. شهد اقتصاد إندونيسيا وماليزيا توسعاً بنسبة 5-6٪ على مدى عقد من الزمان. في الفلبين وفيتنام بنسبة 6-7٪، أما البلدان الأفقر في المنطقة مثل ميانمار وكمبوديا فهي تنمو بشكل أسرع. بالنسبة للمستثمرين الذين يتحوطون ضد الصين، أصبح جنوب شرق آسيا مركز التصنيع المفضل لهم. أصبح مستهلكوها الآن أغنياء بما يكفي لتشكيل سوق جذابة. من الناحية التجارية والجيوسياسية، لذلك تعتبر منطقة جنوب شرق آسيا بمثابة جائزة لمن يهيمن عليها.
من بين المتنافسين يبدو للوهلة الأولي أن الصين هي الفائز الأكثر احتمالا للفوز بالجائزة. إنها أكبر شريك تجاري في المنطقة، وتضخ استثمارات أكثر مما تفعل أمريكا. وهناك أكثر من دولة في جنوب شرق آسيا تعتبر دول عميلة للصين مثل كمبوديا، والواقع أنه ليس هناك من هو على استعداد لعبور الصين بالانحياز الصريح إلى جانب أمريكا في صفوف القوى العظمى العديدة المحيطة بالمنطقة. ومع ذلك فبقدر ما تبدو علاقات جنوب شرق آسيا مع الصين وثيقة فإنها أيضًا مشحونة، ومن منظور أمريكا فإن الصين كشفت في عام 2020 عن شخصيتها الحقيقية.
سياسياً، أصبحت دولة قمعية أكثر من أي وقت مضى، وأصبح سلوكها الخارجي أكثر عدوانية من أي وقت مضى، مع غارات طائراتها المقاتلة بالقرب من تايوان، والمشاجرات المميتة مع القوات الهندية في جبال الهيمالايا والإجراءات التجارية ضد أستراليا، ومن الناحية الاقتصادية، كان اقتصادها يتجه نحو الداخل. ومع التأكيد على أن الاستثمار الصيني على الرغم من ضخامة له عيوبه. وكثيرا ما تتهم الشركات الصينية بالفساد أو الإضرار بالبيئة. يفضل الكثيرون توظيف عمال صينيين مستوردين بدلاً من السكان المحليين، مما يقلل من الفوائد التي تعود على الاقتصاد، ثم هناك انعدام الأمن الناجم عن عادة الصين المزعجة المتمثلة في استخدام القيود على التجارة والاستثمار لمعاقبة الدول التي لا ترضيها.
كما تُزعج الصين جيرانها بإلقاء ثقلها عسكريًا في كل مشكلة.. منها على سبيل المثال الاستيلاء على المياه الضحلة والشعاب المرجانية في بحر الصين الجنوبي وتحصينها عسكرياً، وأيضا مضايقاتها لسفن جنوب شرق آسيا التي تحاول الصيد أو التنقيب عن النفط في المياه القريبة، الصين مصدر توتر مع جميع دول المنطقة تقريبًا، من فيتنام إلى إندونيسيا. كما تحافظ الصين على علاقات مع المتمردين الذين يقاتلون ضد حكومة ميانمار الديمقراطية، وقد دعمت في الماضي المقاتلين ضد الأنظمة الديمقراطية في جميع أنحاء المنطقة.
هذا النوع من القتال يجعل الصين لا تحظى بشعبية في كثير من جنوب شرق آسيا علي خلاف الولايات المتحدة التي تقل أطماعها وتدخلاتها الجيوسياسية في المنطقة، ولهذا تندلع كثيراً أعمال شغب مناهضة للصين في بعض دول المنطقة مثل فيتنام. وشهدت إندونيسيا أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث عدد السكان احتجاجات حول كل شيء من الهجرة الصينية غير الشرعية إلى معاملة الصين للأقلية المسلمة فيها. حتى دولة لاوس الصغيرة الديكتاتورية الشيوعية حيث لم يسمع بها من قبل معارضة عامة، فإن الهمسات الخفية حول الهيمنة الصينية أمر شائع، قد لا يجرؤ زعماء جنوب شرق آسيا على انتقاد الصين علانية خوفًا من العواقب الاقتصادية، لكنهم أيضًا قلقون منها جداً.
حتى الآن تبدو محاولة الصين للهيمنة في جنوب شرق آسيا بعيدة كل البعد عن التأكيد. لا ترغب حكومات جنوب شرق آسيا في التخلي عن التجارة مع جاراتهم المزدهرة اقتصادياً، لكنهم يريدون أيضًا ما تريده أمريكا: السلام والاستقرار ونظام قائم على القواعد لا تشق فيه الصين طريقها بفعل الثقل الهائل لها. مثل جميع القوى المتوسطة تمتلك الدول الكبرى في جنوب شرق آسيا حافزًا للتحوط من رهاناتها، ومعرفة المزايا التي يمكنهم الحصول عليها من التنين الصيني.
حتى الآن لا تبدو مزايا الصين في الصراع ليست كبيرة. ولمساعدة جنوب شرق آسيا على تجنب الانزلاق إلى فلك الصين، ينبغي على أمريكا أن تشجعها على إبقاء خياراتها مفتوحة وبناء ثقل موازن للنفوذ الصيني. إحدى الآليات هي المزيد من التكامل الإقليمي، حالياً التجارة والاستثمار بين دول جنوب شرق آسيا تفوق حجم الأعمال التي يقومون بها مع الصين، وتتمثل آلية أخرى في تقوية الروابط مع القوي الآسيوية الأخرى الكبرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية. وفوق كل شيء يجب ألا تقع أمريكا في فخ محاولة إجبار أعضائها على الانحياز لأحد الجانبين. هذا هو الشيء الوحيد الذي تصمم جنوب شرق آسيا على مقاومته.
مشاكل الصين الاقتصادية
وكما تواجه الصين مشاكل سياسية فإنها رغم قوتها الاقتصادية تواجه عدة مشاكل داخلية اقتصادية، نستعرض في هذا التقرير أبرز هذه المشاكل التي قد تنفجر..
1- إعصار الديون الداخلية للشركات الصينية
في بداية العام فوجئ العالم بإصدار حكم الإعدام على الرئيس السابق لشركة "تشاينا هوارونج" في واحدة من أبرز قضايا الفساد في البلاد. أدين "لاي شياومين" بتلقي أو طلب رشاوي يبلغ حجمها 1.788 مليار يوان (276.72 مليون دولار) في فترة ما بين 2008 إلى 2018، عندما يرأس شركة "تشاينا هوارونج". قالت السلطات الصينية تعقيباً على الحكم إن "لاي" ابتز العملاء وتلقى رشاوي وتواطأ مع آخرين لاختلاس مبالغ كبيرة من الأصول العامة، واستغل مناصبه لتقديم مزايا غير لائقة لمن رشوه. وأضافت الشركة "إن معاملة "لاي شياومين" القاسية تعكس عزم اللجنة المركزية القوي بزعامة "شي جين بينغ"، وعدم التسامح في معاقبة الفساد". ورغم تصريح الحكومة أنها خفضت إصدار الأحكام بالإعدام في جرائم مثل الاختلاس والرشوة والفساد في السنوات الأخيرة وسط الرفض العام لها، إلا أن الصين تطبق عقوبة الإعدام على نطاق واسع، على الرغم من أن المسؤولين الحكوميين لا يكشفون عن أرقام رسمية، وسبق أن أصدرت المحكمة الصينية حكما مماثلا عام 2013 حين أعدم رجل الأعمال "تسنج تشنج جيه" بعد أن أدانته المحكمة بجرائم مالية. وكذلك نفذت الصين تنفذ حكم الإعدام في "ليو هان" الذي كان يدير شركه "هان لونج" عملاق قطاع المناجم في إقليم "سيتشوان" بتهمة الضلوع في جرائم من نمط جرائم المافيا، ونفذ حكم الإعدام أيضا في شقيق ليو الأصغر "ليو واي" وثلاثة من شركائه أيضاً. ومجموعة هان لونج هي شركة خاصة ضخمة تنشط في أكثر من قطاع أعمال، من بينها المناجم والاتصالات والكيماويات. لكن تبقى قضية شركة "تشاينا هوارونج" أكثر أهمية إذ إنها تلقي بظلالها على مشاكل سوق السندات للشركات الصينية، وتعد شركة "تشاينا هوارونج" هي أكبر لاعب فيها وأحد أربع شركات أسستها الحزب الحاكم لإدارة مخاطر سندات الشركات الصينية.
إن إعصار الديون الداخلية للشركات الصينية وتخلفها عن سداد هذه الديون هو أكبر المخاطر التي تواجه الاقتصاد الصيني حالياً. على مدار عقود كانت حالات التخلف عن سداد الديون حدثًا نادرًا في سوق السندات الصيني، حيث اعتمد العديد من المقترضين على الدعم المالي أو الإنقاذ من الحكومة الصينية في أوقات الشدة. الآن يواجه المستثمرون في الصين ثاني أكبر سوق سندات في العالم اختبارًا جدياً؛ حيث شهدت السنوات الثلاث الماضية عددًا قياسيًا من حالات التخلف عن السداد. تراجعت حالات التخلف عن السداد لمعظم عام 2020 حيث سعى صناع السياسة للحد من الأضرار الاقتصادية الناجمة عن تفشي فيروس كورونا، قبل أن تعود مرة أخرى في نهاية العام الماضي، ووفقًا للمحللين تستمر المخاطر في التزايد خلال عام 2021.
مع تراجع بكين عن بعض إجراءاتها الداعمة التي قدمتها لتعويض تأثير الوباء، بدأت علامات الإجهاد الائتماني تعود، أدت سلسلة من الإخفاقات بين الشركات المرتبطة بالدولة إلى إحداث موجات من الصدمة في السوق، مما ألقى بظلال من الشك على مخاطر الائتمان لمجموعة من المقترضين الذين اعتُبر تاريخياً أنهم يتمتعون بضمان ضمني من الدولة أو الحكومات المحلية. وتعكس الأرقام الوضع الاقتصادي لسوق السندات للشركات الصينية حيث تبلغ القيمة الإجمالية لسوق السندات المحلي الصيني 18.1 تريليون دولار، وهو ثاني أكبر سوق بعد الولايات المتحدة، ويبلغ إجمالي قيمة حالات التخلف عن سداد سندات الشركات الداخلية حتى الآن في عام 2021 ما يقارب 84.7 مليار يوان. بينما يبلغ إجمالي قيمة التخلف عن سداد سندات الشركات الخارجية حتى الآن في عام 2021 ما قينته 3.7 مليار دولار.
هناك إشارات إلى أن بكين أصبحت مرتاحة لترك المقترضين يتخلفون عن سداد ديونهم، في حين أن هذا قد يؤدي إلى إبعاد المستثمرين على المدى القصير، فإن هذا أمر جيد في نهاية المطاف للسوق على المدى الطويل لأنه يسمح للشركات الأضعف بالفشل. إن تشجيع المنافسة والسماح للمستثمرين بتسعير المخاطر بشكل أكثر دقة يساعدان في تحسين كفاءة أسواق الدين في الدولة.
ومع ذلك يمكن أن يكون هناك بعض المفاجآت السيئة للمستثمرين، حيث يبدو أن التخلف عن السداد يأتي من العدم. لم يساعد ذلك شركات التصنيف الائتماني المحلية في الصين التي تخصص تصنيفًا عاليًا من AAA للغالبية العظمى من الديون المقومة باليوان، بل واتُهمت بالسلوك الضال. تزداد أهمية المعرفة المحلية، خاصة وأن عددًا متزايدًا من حاملي السندات الدوليين يجدون أنفسهم متورطين في إجراءات الإفلاس الغامضة في البلاد.
2- أزمة النشاط العقاري وتأثيره على الاقتصاد الصيني
تعكس ما تعرض له عملاق العقارات الصينى إيفرجراند الصينية «China Evergrande» الوضع السيئ للشركات الصينية عموماً وسوق العقارات تحديداً، حيث تقترب الشركة من اعلان إفلاسها بديون تتجاوز 300 مليار دولار وهو يعادل حوالي 2 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي للصين كلها، وأصبحت الشركة أكبر مصدر قلق مالي في الصين، لأنه مع وجود أكثر من 300 مليار دولار من الالتزامات والروابط مع عدد لا يحصى من البنوك تشمل أكثر من 128 بنكًا وأكثر من 121 مؤسسة غير مصرفية، يمكن أن تسبب أزمة الشركة موجات من الصدمات للنظام المالي والاقتصاد بصورة عامة، كما ينتظر أكثر من مليون وخمسمائة ألف شخص استلام وحداتهم العقارية غير المكتملة منذ سنوات.
تمتلك شركة إيفرجراند للعقارات أكثر من 1300 مشروع في أكثر من 280 مدينة، وفقًا لموقع الشركة على الإنترنت. صعدت المجموعة الصينية من عمليات الاستحواذ في السنوات الأخيرة، مستفيدة من جنون العقارات. وذهبت المجموعة الآن إلى ما هو أبعد من بناء المنازل، من خلال استثمارات في السيارات الكهربائية، ووحدة إنتاج للإنترنت والوسائط ومنتزه سياحي، ونادي لكرة القدم«Guangzhou FC» ، وشركة مياه معدنية وشركة للمواد الغذائية.
وكان التوسع السريع في الشركة مدعومًا بالقروض لدعم فورة شراء الأراضي، وبيع الشقق بسرعة على الرغم من هوامش الربح المنخفضة لبدء الدورة مرة أخرى، لكن شركة العقارات العملاقة بدأت تتعثر بعد أن اتخذت بكين إجراءات جديدة في أغسطس 2020 لمراقبة مستوى الديون الإجمالي لشركات تطوير العقارات الكبرى والسيطرة عليها عن كثب.
يعتبر النشاط العقاري أهم المحفزات الرئيسية لنمو الصين، فهو مسؤول لوحده عن 29٪ من الناتج الاقتصادي و 10% من إجمالي الناتج الإجمالي الكلي للدولة بما دفع معظم الشركات الصينية إلى الاستثمار في العقارات، وإفلاس مثل هذه الشركة الكبرى سيكون له تداعيات هائلة؛ حيث تمثل إيفرجراند لوحدها حوالي 4٪ من عائدات العقارات الصينية المرتفعة، وستؤدي أي حالات تخلف عن السداد أيضًا إلى عمليات بيع في سوق الائتمان ذات العائد المرتفع، كما سيكون لانهيار مجموعة إيفرجراند تأثير كبير على سوق العمل، حيث لديها 200 ألف موظف وتوظف 3.8 مليون شخص كل عام لتطوير المشاريع. قال مارك وليامز، كبير الاقتصاديين الآسيويين في كابيتال إيكونوميكس أن انهيار إيفرجراند سيكون أكبر اختبار واجهه النظام المالي الصيني منذ سنوات.
والواقع أن الشركات الصينية لم تتعلم من كارثة عام 2008، إذ تمكنت من الحصول على قروض بنكية ضخمة، وتوسعت في بناء مشروعات ضخامة على شكل ناطحات سحاب عملاقة وأبنية فارهة وأحياء ومدن جديدة، مستغلة علاقاتها مع الحكومات المحلية وقيادات في الحزب الشيوعي الصيني بتكرار الاقتراض لهذه المشروعات، بينما تعاني الأسواق من هبوط في الطلب وانخفاض في الأسعار، ووصل الأمر إلى حرق للأسعار من بعض العاملين في الحكومات المحلية وأعضاء بالحزب الحاكم، ممن يتمكنون من الحصول على تسهيلات ائتمانية لحجز الوحدات وإعادة بيعها قبل تسلمها من الشركة.
وتسبب هذا في زيادة كميات المعروض من العقارات، وعدد الشقق الشاغرة، خاصة من الإسكان الفاخر وفوق المتوسط، عن 40% من تعدد الوحدات في البلاد، وانتشار ما يعرف بمدن الأشباح التي انتشرت بسبب زيادة المضاربات العقارية التي يشارك في ملكيتها رجال أعمال من المقربين للحزب الشيوعي، والحكومات المحلية التي توسعت في بيع الأراضي، لتوفير السيولة المالية لميزانياتها، بعد أن أصبحت المنافسة بين حكام الأقاليم، في مدى قدرتهم على توفير المال اللازم لمدنهم، بعيدا عن الموازنة المركزية للدولة.
ولا يخلو الأمر أيضاً من فساد اجتماعي واسع، فالصين من الدول القليلة في العالم التي لا تفرض ضرائب على الممتلكات العقارية. والطبقة الوسطى الداعمة للحزب الحاكم ورجال الأعمال المقربين منه والحكومات المحلية التي تحولت إلى تجار أراض، تحالفوا جميعا ضد القيود التي حاولت الحكومة المركزية فرضها من أجل تقييد مبيعات الأراضي ومحاولات السيطرة على الفقاعة منذ بدايتها. وشكلت عوائد العقارات لهذه المجموعات حجر الزاوية في تكوين ثرواتهم الجديدة. وأصبح القطاع العقاري يشكل الجزء الأكبر من ثروة الأسر، والبعض يعتقد أنه يمثل 30% من قيمة الاستثمار العام داخل الصين، كما أنه جزء كبير في عوائد غسيل الأموال وتهريب الثروات غير المشروعة، داخل الصين وخارجها، كما كشفت ذلك كثير من وقائع الفساد التي طالت وزراء ومسؤولين في الحزب الشيوعي على مدار السنوات الماضية.
ويتوقع بعض رجال الاقتصاد أن لعنة الفقاعة العقارية في الصين لن تتوقف عند حدودها، فسوق العقار الذي يتجاوز 4 تريليونات دولار سيقلل من الدعم المالي الموجه من الصين للخارج.
3- مشاكل عمالية كبيرة وعميقة
جعلت الحملة القمعية على المجتمع المدني الحياة أكثر صعوبة بالنسبة للعمال الباحثين عن المساعدة.. في 11 يناير من عام 2020، أوقف "ليو جين" وهو عامل توصيل طعام دراجته النارية على جانب الطريق في مدينة تايتشو الشرقية، وصاح قائلاً: "أريد أموالي التي كسبتها بشق الأنفس". ثم أشعل النار في ملابسه المبللة بالبنزين، وأحرق نفسه بشدة تماماً كما يحدث في دول الشرق الأوسط. وقالت وسائل الإعلام المملوكة للدولة حينها إن السيد ليو كان يحتج على “Ele.me”وهي خدمة توصيل زعم أنها مدينة له بالمال.
(تقول الشركة إنها تدفع الفواتير الطبية للسيد ليو وتحقق في قضيته)، مثل هذه المظالم شائعة بين ملايين العمال في اقتصاد الوظائف المؤقتة سريع النمو في الصين، على الرغم من أن حالات قليلة لا تقل خطورة. في عام 2019، سجلت نشرة العمالة الصينية -وهي منظمة غير حكومية في هونج كونج- 142 احتجاجًا من قبل عمال توصيل الطعام والخدمات اللوجيستية والنقل، ولكن نظرًا لعدم الإبلاغ عن العديد من الاحتجاجات فإنها تقدر أن هذا لا يمثل سوى عُشر العدد الفعلي.
كان رد الحزب الشيوعي الحاكم هو محاولة إقناع عمال الوظائف المؤقتة بالانضمام إلى نقابة عمالية. في عام 2015 أطلق زعيم الصين "شي جين بينغ" خطة "إصلاح تجريبي تشمل إطلاق منظمة جامعة يجب أن تنتمي إليها جميع النقابات تحت اسم اتحاد نقابات عمال عموم الصين (ACFTU). لم يتم نشر النص الكامل لدوافع هذا القرار، لكن وسائل الإعلام الحكومية قالت إن الهدف هو جعل الاتحاد يركز على تدابير ملموسة لمساعدة العمال، والحد من "عدم الاستقرار". وحثت على تعزيز العضوية النقابات بين المهاجرين من الريف، مع تطبيقات لتسهيل الأمر على أمل أن يؤدي ذلك إلى تقليل الاحتجاجات. في عام 2018 قال اتحاد النقابات العمالية إنه سيحاول بشدة توظيف ثماني مجموعات من عمال الخدمات المؤقتة، بما في ذلك عمال توصيل الطعام (حوالي 7 ملايين شخص) والسعاة حوالي (4 ملايين).
كافحت النقابات الجديدة لعمال الوظائف المؤقتة من أجل جعل نفسها جاذبة للعضوية. لكن في الواقع فإن النقابات هي جناح للحزب الشيوعي، ويعتبر مسؤولو النقابات موظفين مدنيين، لذلك لا يمكنهم فعل أي شيء يتعارض مع سياسة الحكومة. والغريب أنه في بعض الأحيان، يكون رئيس الشركة هو أيضًا رئيس النقابة؛ لذلك فإن أهم مهمة للحكومات المحلية ليست حماية حقوق العمال، بل هي الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وضمان التنمية الاقتصادية الذي تسعى له الحكومة في بكين.
ببساطة لا شيء تخسره سوى مزيد من الوقت، لأن الأهداف الرسمية لحملة الإصلاح الحكومية هي تعزيز سيطرة الحزب على الاتحاد واستخدام المنظمات العمالية لتعزيز حضور الحزب الحاكم على مستوى القاعدة، بل وصل الأمر إلى حد أن الحزب كان يعمل بجد في السنوات الأخيرة لتشكيل خلايا في الشركات الخاصة، لكسب رأي في إدارتها. وتعتبر إنشاء النقابات بمثابة نقطة انطلاق مفيدة لتحقيق ذلك.
في عام 2015 في ظل غياب الكثير من المساعدة من النقابات، استطاعت المنظمات العمالية الصغيرة تحمل الركود وحققت بعض الانتصارات. أدى إضراب في مصنع ساعات "سيتيزن" في مقاطعة غوانغدونج في عام 2011 إلى مفاوضات جماعية، كما وافق المديرون على سداد 70٪ من مدفوعات العمل الإضافي المتأخرة لمدة خمس سنوات. في عام 2015، أجبر العمال في مصنع أحذية “Lide” في جوانجدونج الشركة على دفع عدة ملايين يوان من متأخرات اشتراكات التأمين الاجتماعي. ثم في عام 2015 قام الحزب بقمع جميع مجموعات المجتمع المدني.
مثال لحملة قمعية أخرى في عام 2018 عندما حاول العمال في “Jasic” وهو مصنع لحام في "Shenzhen" تشكيل نقابة يقودها العمال وتسجيلها لدى الاتحاد. تم فصل كل هؤلاء العمال، وبعد أسابيع اعتقلت الشرطة عشرات العمال والطلاب من جميع أنحاء البلاد للاحتجاج على دعم النقابة.
ورغم أن صفوف الاتحاد الذي أنشأته حكومة بكين قد زاد عدد أعضائه. ففي عامي 2015-2016 انضم 30 مليون عامل مهاجر. يضم الاتحاد الآن أكثر من 390 مليون عضو بما في ذلك 6.5 مليون من مجموعات العمل الثمانية ذات الأولوية. كرست بعض النقابات المزيد من الموارد لمساعدة العمال من خلال المشورة القانونية. في بعض الأحيان يدافع اتحاد النقابات المحلي عن العمال، بينما لا يفعل ذلك الاتحاد داخل الشركة. قال الاتحاد إنه بين 2016 وأوائل 2019 ساعد أكثر من 5 ملايين عامل مهاجر في تأمين 53 مليار يوان (8.2 مليار دولار) من الأجور المتأخرة.
صحيح أن الواقع يقول إن معظم القرارات النهائية التي تم التوصل إليها من خلال التحكيم أو التقاضي تميل إلى تفضيل العمال على أصحاب العمل، لكن هناك كل أنواع العوائق، منها أن الأمر يستغرق الكثير من الوقت. معظم العمال ليس لديهم الوقت أو المال للاستثمار في إجراءات المحكمة أو التحكيم، بالإضافة إلى حرص الحزب على منع تكاتف العمال. إذا كان لديك مجموعة مكونة من 50 عاملاً من بعض أماكن العمل وذهبوا ويقولون إن رئيسهم لم يدفع لهم رواتبهم، فإن أول شيء تحاول النقابة القيام به هو تقطيعها إلى 50 حالة فردية، ففي عام 2019 تم التعامل مع أكثر من 2.1 مليون نزاع من خلال التحكيم شارك فيها 2.4 مليون عامل.
الواقع أن عضوية النقابات في الصين لا توفر سوى القليل من الأمل في أن ظروف العمل المرهقة سوف تتحسن. الوضع الحالي يدعو إلى التشاؤم من أن الإصلاحات النقابية ستساعد عمال الوظائف المؤقتة. وتلك مشكلة اجتماعية كبيرة سيكون لها بالتأكيد تأثيرها على الاقتصاد الكلي.
4- سيطرة الحزب الحاكم في الصين على عمالقة التكنولوجيا
أحد الأسئلة المثيرة للاهتمام حول الصين هو ما إذا كان بإمكانها الجمع بين السياسات الاستبدادية وبين قواعد الأعمال وحقوق الملكية التي يحتاجها رواد الأعمال وأسواق رأس المال للنمو. الهجوم الأخير الذي شنته الحكومة على شركة (Didi Global) وهي شركة صينية لنقل الركاب أدرجت أسهمها في بورصة نيويورك كان بمثابة تحذير للمستثمرين في جميع أنحاء العالم، ولأي شخص يأمل في جني ثروته من خلال التأسيس في الصين. "ديدي" هي واحدة من الشركات الرائدة في الصين تمتلك ما يقارب 493 مليون مستخدم أكثر من (Uber) و15 مليون سائق، ولها وجود في البرازيل والمكسيك. وأدرجت أسهمها في 30 يونيو الماضي حيث جمعت سيولة من المستثمرين العالميين، وقيمت الشركة عند 68 مليار دولار. احتوت نشرة الإصدار على 60 صفحة من "عوامل الخطر"، بما في ذلك الإجراءات الصارمة التنظيمية، التي أغفلها للأسف معظم المستثمرين. ويبدو أن "ديدي جلوبال" تابعت قرار الإدراج ضد رغبات النظام الحاكم في الصين. في الرابع من يوليو وبعد أربع أيام فقط من قرار الشركة إدراج أسهمها في نيويورك اتهمت هيئة تنظيم الإنترنت في الصين "ديدي جلوبال" بحجة انتهاك قواعد جمع البيانات الشخصية، وتم حظرها من متاجر تطبيقات الهاتف المحمول في الصين. أدى ذلك إلى انخفاض سعر سهم "ديدي جلوبال" بأكثر من 20٪ في درس قاسٍ لكل من يحاول مخالفة رأي الحزب الحاكم في بكين.
كانت صناعة التكنولوجيا في الصين واحدة من أكثر المجالات ديناميكية في الاقتصاد العالمي في العقد الماضي. مئات الشركات الناشئة الكبيرة لم تحذُ حتى الآن حذو الشركات العملاقة مثل Alibaba و Tencent و Didi من خلال إدراج أسهمهم في البورصة. لدى "ديدي جلوبال" مساهمون أجانب كبار بما في ذلك SoftBank و Uber وتمتلك كذلك حصة في Grab المنافس القوي في جنوب شرق آسيا، ورغم ذلك تلقت صفعة قوية من حكومة بكين.
لم تكن أحداث شركة "ديدي جلوبال" حادث فردي أو عارض، في العام الماضي ألغى المنظمون الصينيون التعويم البالغ 300 مليار دولار لشركة Ant Group في هونج كونج وشنغهاي في اللحظة الأخيرة. استمرت الحكومة في تهديد شركات التكنولوجيا الأخرى وأباطرة المال بما فيهم "جاك ما" أغني رجل في الصين والمؤسس المشارك لشركة Alibaba ومؤسس Ant.
تشعر جميع الحكومات الغربية بالقلق بشأن خصوصية البيانات والاحتكارات، وتدخلات حكومة الصين تشير إلى هجوم ممنهج على عمالقة التكنولوجيا من قبل الحزب. في رسالة واضحة فحواها: يجب أن تذعن شركات التكنولوجيا القوية للحزب الشيوعي، ويجب على رؤسائها التزام الصمت ويمكن انتهاك حقوق الملكية للمالكين الأجانب. صحيح أنه غالبًا ما يتم حرق الشركات العالمية في الصين، وواجهت الشركات الكورية الجنوبية واليابانية مقاطعات واحتجاجات. وتتجنب الحكومة الصينية البنوك الأجنبية لفترة من الوقت، لمعاقبتهم على الأخطاء المتصورة، لكنها في النهاية يتلاشى كل ذلك وترحب بعودتهم من جديد، لكن قد تكون هذه المرة مختلفة، حيث خسر المستثمرون الأجانب مئات المليارات من الدولارات، مما قد يغير بشكل دائم المعروض من رأس المال العالمي للصين، وقد تعتمد الشركات الصينية لملء هذه الفجوة على أسواق أقل تطوراً في السوق الصيني.
في النهاية أصبح الأمر يستلزم من رواد الأعمال والمستثمرين إعادة تقييم العوائد الهائلة من الأسواق الصينية في مقابل مخاطر قوانينها المبهمة، والتنمر على المسؤولين والحكام المصابين بجنون العظمة.
التجارة العالمية .. كيف تتعامل مع الصين؟
تظهر الاعتقالات في هونج كونج والاتفاق التجاري الأوروبي أن الغرب في موقف ضعيف وبحاجة ماسة إلى نهج متماسك للتعامل مع الصين. لا شك إنها القوة الصاعدة في القرن الحادي والعشرين، ولكنها أيضًا حكم استبدادي لا يثق في الأسواق الحرة وينتهك حقوق الإنسان. ومع ذلك تظهر الأحداث الأخيرة كيف أصبحت السياسة الغربية تجاه الصين غير فعالة. في 30 ديسمبر من عام 2020 وافق الاتحاد الأوروبي على اتفاق استثمار مع الصين يضمن مكاسب ضئيلة ومنح الصين دعماً دبلوماسيًا. فعل الاتحاد الأوروبي ذلك على الرغم من قلق إدارة جو بايدن وفشل الكونجرس حتى الآن في تمرير مشروع قانون لحماية الأويجور من العمل القسري.
ومع تعثر الغرب تنشغل الصين في اتخاذ إجراءات صارمة في الداخل وتوسيع نفوذها في الخارج.
في السادس من يناير من العام الحالي تم اعتقال أكثر من 50 ناشطا ديمقراطيا في هونج كونج، وفي نوفمبر وقعت الصين اتفاقية تجارية مع 14 دولة آسيوية بما في ذلك حلفاء أمريكا مثل اليابان وسنغافورة، وتواصل تهديد أستراليا بدبلوماسية البلطجة وحظرها التجاري الجزئي.
أصبح نمط الإصرار الصيني الاستبدادي والفوضى الغربية في التعامل مع هذه الفوضى أمراً مألوفًا للغاية. تكافح جميع الديمقراطيات من أجل التوفيق بين الأهداف المتضاربة لممارسة الأعمال التجارية في اقتصاد ضخم وحيوي، وبين حماية الأمن القومي وحقوق الإنسان. انزعجت الولايات المتحدة من حالة الرضا الأوروبي عن نموذج الصين الذي تقوده الدولة، الذي قد يفجر بعد ذلك نظام التجارة العالمي كله دون اقتراح بديل. فشلت الدول الغنية في العمل معًا، مما قلل من نفوذهم. حدد المفاوضون الأمريكيون الإصلاحات الهيكلية التي يجب أن تسنها الصين، والتي ربما تدعمها القوى الغربية الأخرى، ولكن في النهاية فازت إدارة "دونالد ترامب" بتنازلات صغيرة في اتفاقية التجارة "المرحلة الأولى" المبرمة مع الصين في يناير 2020. وأصبحت السياسة الغربية مشوشة تعتمد على الصفقات والحظر والتعريفات الجمركية المخصصة. وأصبح نظام القواعد الذي كان العمود الفقري للتجارة العالمية لعقود من الزمان، ويتميز بالتجارة، وأسواق رأس المال المفتوحة، والأنظمة القانونية المحايدة، الذي يمكن التنبؤ به جزءاً من الماضي.
تستغل الصين حالة الفوضى حتى مع عودة اقتصادها منتعشًا من الوباء. بلغ النمو السنوي 4.9٪ في الربع الأخير من عام 2020. ويتوقع حكام بكين أن تكون إدارة "بايدن" منشغلة بمشاكل أمريكا في الداخل، مع تفشي وباء "كوفيد 19". رحبت أوروبا بالصوت التصالحي الذي أطلقه "بايدن" معها، لكنها قلقة من أن سياساته مشوبة بالتحيز بما في ذلك شعار "اشترِ المنتجات الأمريكية"، والغموض بشأن ما إذا كانت التعريفات الجمركية على بعض السلع الأوروبية ستتم إزالتها. في مواجهة قوة عظمى صاعدة قرر الاتحاد الأوروبي تسريع جهوده لإبرام صفقة استثمارية طويلة الأمد مع الصين.
كيف يمكن أن تبدو السياسة المتماسكة؟
يجب أن تكون البداية هو الاعتراف بقوة الصين. على عكس روسيا الغارقة بالنفط، فإن الصين كبيرة ومترابطة بحيث لا يمكن احتوائها.. كبيرة ومتنوعة ومبتكرة بما يكفي للتكيف مع الضغوط الخارجية. تمثل الصين 18٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. كما أنها أكبر شريك تجاري للبضائع لـ 64 دولة بما في ذلك ألمانيا، بينما أمريكا أكبر شريك تجاري لـ 38 دولة فقط. أصبحت أسواق رأس المال الصينية مهمة أيضًا، يمتلك الأجانب الآن ما يصل إلى 10٪ من جميع السندات الحكومية. وتختبر حالياً عملة رقمية يمكن أن تنافس الدولار في النهاية كوسيلة دفع لتسوية التجارة العالمية. ومع ذلك وعلى الرغم من حجم الصين وتعقيدها ستظل العلاقات التجارية ممزقة بانعدام الثقة. فمن الصعب على الغرباء معرفة ما إذا كانت الشركات الخاصة التي يستثمرون أموالهم فيها تتصرف بشكل اقتصادي حر مستقل عن الحزب الشيوعي. ومن التهور أيضاً الاعتماد على وعود الحكومة الصينية، سواء في دعم الصناعة أو سيادة القانون في هونغ كونغ. والنتيجة هي أنه في بعض المجالات يجب على الغرب أن يسعى لمواجهة الصين في ملفات مثل (حقوق الإنسان)، وإلى المنافسة معها في مجالات أخرى (معظم مجالات التجارة) وإلى التعاون معها في مجالات مثل (الصحة وتغير المناخ).
إن التعقيدات الهائلة لعدم الثقة في الصين يزيد من حاجة الغرب للعمل في انسجام لتعظيم نفوذه. لا تزال أمريكا وأوروبا والديمقراطيات الأخرى مجتمعة تمثل أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي العالمي. من أجل الحد من محيط التوترات التجارية، يجب عليهم تحديد الصناعات الحساسة، مثل التكنولوجيا والدفاع. في هذه المجالات يجب عليهم إخضاع المشاركة الصينية في الأسواق الغربية إلى مزيد من التدقيق والقيود الأكثر صرامة. لكن في صناعات أخرى يمكن أن تزدهر التجارة دون عوائق. يجب على الديمقراطيات الغربية أن تضع إطارًا مشتركًا لحقوق الإنسان، بما في ذلك التحقق من أن سلاسل التوريد أخلاقية، ومعاقبة الأشخاص والشركات المتورطة في انتهاكات. أخيرًا، يجب أن يكون لأي تحالف جديد مع الصين قواعد صارمة يمكن التنبؤ بها. وليس على أساس فعل ورد فعل صادر من واشنطن في كل مرة.
حتى قبل العداء مع أوروبا في عهد "ترامب" تظل قضية "الصين" مهمة شاقة لإدارة بايدن، حيث تعرضت هيبة أمريكا للضرب. ومع ذلك فإن الرأي العام في العالم الغني حذر الآن من الصين. صحيح أن ترامب فشل في التعامل معها جزئيًا بسبب عدم كفاءته وازدرائه للحلفاء. لكن وسط موجة جديدة من النوايا الحسنة العالمية من الممكن إنشاء مجموعات ضغط من الديمقراطيات الغنية، على سبيل المثال مجموعة "7" موسعة تعمل على ملف الصين. فلا تزال هناك فرصة لإعادة تأكيد قيم المجتمعات المفتوحة والأسواق الحرة، لكنها لن تدوم إلى الأبد في مواجهة استبداد حازم من الصين. وللحفاظ على السلام يجب رفع تكلفة العدوان العسكري على الصين، من خلال تعزيز التحالفات مثل "الرباعية" مع الهند واليابان وأستراليا، بالإضافة إلى تعزيز القوة العسكرية لتايوان.
هل فات الأوان لاحتواء الصين؟
الرأي الشائع داخل أمريكا حالياً يعود إلى “Wang Yong” الذي يدير مركز الدراسات الأمريكية في جامعة بكين إحدى أكثر المؤسسات شهرة في الصين. الذي يصف سياسات أمريكا في الصين بأنها تسترشد بمجموعات المصالح المتنافسة، حيث يستجيب "بايدن" للممولين في وول ستريت ورؤساء وادي السيليكون الذين يسعون إلى علاقات "أكثر عقلانية" مع الصين، بينما يدفع الصقور و"قوى الدولة العميقة" باتجاه الحرب الباردة. ويصر “Wang Yong” على أنه يمكن للصين وأمريكا العمل معًا بشأن المصالح المشتركة مثل تغير المناخ والصحة العامة وتمكين الازدهار العالمي، ومع ذلك يجب على الناس أن يكونوا واقعيين، فأمريكا قد تعودت على المرتبة الأولى في الشؤون العالمية وستستخدم كل الوسائل للدفاع عن مكانتها. ووسط انعدام الثقة هذا يجب فهم أي تقارب صيني مع أمريكا على حقيقته: محاولة لكسب الوقت بينما تتسابق الصين لتصبح أقوى. حكام الصين لا يخفون نظرتهم للعالم، والتي تقوم على فكرة أن الأقوياء فقط هم من يعاملون باحترام. يمكن لأمريكا أن تختار المنافسة أم لا. لكن الجمود الأمريكي سيكون فوزاً للصين حتمياً.
هل فات الأوان لاحتواء الصين؟
في النهاية تظل الصين أحد أبرز اقتصاديات العالم من حيث النمو، وتظل الصين الخطر الأكبر على اقتصاديات الغرب، ولا يمكن أنكار وجود الصين كقوة عالمية بارزة حالياً وصاعدة لقوة مستقبلاً، لكن هذا لا ينفي حقائق مثيرة حول الاقتصاد الصيني أهمها:
١- أن هناك شكوكاً حول قدرة الصين على الحفاظ على معدل النمو المرتفع في ظل تحفظات دول متقدمة حول طريقة احتساب الصين للناتج المحلي الخاص بها. وشكوكاً حول مؤشرات الصين الاقتصادية. ومنها اتهام البنك الدولي لـ "كريستالينا جورجيفا" مدير عام صندوق النقد الدولي تحقيق أجراه مكتب محاماة عينه البنك الدولي جورجيفا بممارسة ضغوط على موظفي البنك الدولي لتعديل التصنيف في تقرير ممارسة الأعمال 2018 عندما كانت تشغل منصب الرئيس التنفيذي للبنك الدولي. ويأتي هذا الاتهام بعد تحديث أصدره البنك الدولي للتقرير في ديسمبر الماضي قال فيه إن الصين كان يجب أن تكون في مركز 85 بدلًا من المركز 78. وأظهر التحقيق المستقل أن تحسن مركز الصين في التقرير، جاء نتيجة تغييرات أجراها موظفو البنك على مؤشرات ظروف العمل، نتيجة لتعليمات من جورجيفا.
٢- تمثل حملة الحكومة الصينية الأخيرة على قطاع التكنولوجيا الفائقة، جنباً إلى جنب مع جهودها لتفضيل القطاع العام على الخاص، انعكاساً جزئياً للمشاكل الاقتصادية التي عززت المعجزة الاقتصادية للبلاد في ظل حكم دنج شياو بينج.
٣- تباطؤ النمو الاقتصادي سيجعل من الصعب على السلطات الصينية التعامل مع فقاعة السوق الائتماني التي تعد من بين أكبر الفقاعات في العالم، وقد يعيد مشهد التراجع الصيني أمام اليابان في التسعينات.
٤- قد تكون للتباطؤ الاقتصادي في الصين آثاره غير المباشرة والخطيرة على بقية الاقتصادات العالمية، فكلنا يعلم تعثر الانتعاش الاقتصادي للولايات المتحدة وأوروبا العام الماضي بسبب مشاكل سلاسل التوريد في بقية آسيا، الأمر الذي قد يدفعها أيضاً إلى إغلاق أجزاء من اقتصاداتها.
٥- ومما يثير القلق بنفس القدر هو خطر أن يؤدي التباطؤ الاقتصادي الصيني إلى انفجار فقاعة «كل شيء» عالمياً بما في ذلك أسواق الأسهم، والإسكان، والديون. إذ تستند هذه الفقاعة «الزاهية» إلى فرضية أن أسعار الفائدة المنخفضة للغاية اليوم ستستمر إلى الأبد، وأن الاقتصاد العالمي آخذٌ في التعافي بسلاسة ويسر كبيرين من الأضرار الناجمة عن فيروس كورونا المستجد. لكن التباطؤ الاقتصادي المطول، إن حدث في الصين، سيجعل هذه الفرضية محل شك كبير، مع آلاف إشارات الاستفهام الخطيرة التي ستدفع الفقاعة للانفجار.
٦- هناك جوانب إيجابية للغرب من التباطؤ الاقتصادي العالمي الناجم عن الصين، حيث أنه سيقلل من خطر الانهاك الاقتصادي والتضخم في امريكا بسبب السياسات النقدية المفرطة التي انتهجتها الحكومة منذ بدء الأزمة.
٧- لا تخلو الصين من مشاكل اجتماعية وعمالية عميقة تتعلق بالوضع السياسي الدي يسيطر علي الدولة والجيش والاقتصاد عدة أشخاص لا يتجاوزن أصابع اليد. بالإضافة الي فساد حكومي وفساد اجتماعي أصاب الجميع بسبب الرغبة في ارضاء الحزب الحاكم وفروعه الإقليمية.