بقلم محمود محيي الدين: مبادرة حساب ادخاري لكل تلميذ
أثناء تجولي في أسواق إحدى قرى شرق أفريقيا اقترب مني بائع لمنتجات الحرف التقليدية ومعه بعض بضاعته في يد وبيد أخرى هاتفه الجوال، موضحاً أنه يقبل التحويلات المالية هاتفياً.
كان هذا منذ سنوات عدة عندما كان استخدام الهواتف المحمولة أمراً مستجداً. أما اليوم فقد بلغ عدد من يستعملون الهواتف في معاملاتهم المالية في القارة السمراء 65 مليوناً، وفقاً لأحدث المتاح من قاعدة البيانات العالمية للشمول المالي، FINDEX، وتبلغ نسبتهم ستة أمثال النسبة المناظرة لهم حول العالم.
ويستخدم نصف هؤلاء الأفارقة هواتفهم دون غيرها في المعاملات المالية، فلا توجد لديهم حسابات مصرفية لدى أي بنك أو مؤسسة مالية أخرى، فقد تعذر عليهم أن يكونوا من عملاء البنوك.
وعلى مستوى العالم كان عدد المستبعدين من الخدمات المالية أكثر من 2 مليار ونصف المليار في عام 2011، وبعد 3 سنوات فقط انخفض هذا الرقم بمقدار 700 مليوناً بفضل التوسع في استخدام منتجات التكنولوجيا الرقمية والهواتف المحمولة.
ورغم هذا التحسن المطرد فإن نسبة ذوي الحسابات المالية في الدول النامية تبلغ 54% فقط، بينما تصل هذه النسبة في الدول المتقدمة إلى 94% من عدد السكان البالغين.
وهناك اختلافات كبيرة بين الدول النامية، فنسبة من يملكون حساباً في الدول العربية 14% بينما تصل هذه النسبة في أفريقيا إلى 34% وتقترب من 70% في دول شرق آسيا.
ويسفر ما وراء هذه النسب والمتوسطات عن 4 فجوات تستوجب التعامل معها لتحقيق أهداف الشمول المالي:
أولاً، أن فرص المنتمين لشرائح الدخل المنخفضة في ملكية أي حساب مالي تقل عن المتوسط العام بما لا يقل عن 10%.
والفجوة الثانية ترجع إلى أن فرص شريحة الشباب بين أعمار 15 و24 عاماً تقل عن من هم أكبر منهم عمراً بحوالي 10% إلى 20% بينما تتراجع هذه الفرص إلى 50% في الدول العربية.
والفجوة الثالثة، تعود إلى تراجع فرص المرأة عن الرجل في امتلاك حساب مالي أو مصرفي، فهي 58% للمرأة على مستوى العالم و65% للرجل.
وتتراجع احتمالات المرأة في الحصول على حساب مالي في المنطقة العربية إلى نصف احتمالات الرجل العربي في امتلاك حساب مالي رغم انخفاضها الشديد مقارنة بالمستويات العالمية أصلاً.
أما الفجوة الرابعة فهي بين الريف والحضر، وهي فجوة لم تحدد مؤشراتها قاعدة بيانات الشمول المالي، وإن أظهرت دراسات تطبيقية عديدة تراجع الريف عن الحضر في التنمية المالية.
ووفقاً لتبعات هذه الفجوات الأربع، فإن أي امرأة منخفضة الدخل عمرها يقل عن 25 عاماً، تعيش في منطقة ريفية عربية، يعد احتمال امتلاكها حساباً مالياً ضعيفا للغاية، ولن تستفيد أو غيرها من برامج التمويل التي يتردد صداها عالياً، إلا إذا نهج القائمون على القطاع المالي واتبع العاملون في شبكات الإنترنت الهواتف الجوالة نهجاً مختلفاً.
بداية هذا النهج الجديد أن تكون هناك إجابة شافية على سؤال بسيط عما يهدف اليه هذا الشمول المالي أساساً؟
هل هو مجرد حساب لدفع بعض الالتزامات والمستحقات، أم هو مقدمة للاستفادة من خدمات مالية أهم مثل الادخار والائتمان ويسهم في الحصول على خدمات مالية أخرى كالتأمين أو التكافل والتمويل العقاري والتأجير التمويلي وغيرها؟
وإذا كنت مختاراً لهدف أول للتوسع في ملكية الحسابات المصرفية والشمول المالي في الدول العربية فسيكون حتماً زيادة الادخار.
فالدول العربية، باستثناءات محدودة لا تدخر بما يتناسب و دخولها. ومن دون مدخرات محلية لا تتوافر موارد تمويل برامج الاستثمار والنمو على مستوى الاقتصاد، وتضطرب حياة الأفراد إذا ما تعرضت دخولهم لعارض.
وترتبط زيادة الادخار بزيادة الدخول حقاً، لكن الظاهرة العربية هي انخفاض الادخار مقارنة بمجموعات دول أخرى تنتمي لذات متوسطات الدخول.
وهناك تسرب كبير في مدخرات العرب بعيداً عن مسار الاستثمار والتنمية، يتجه نحو المضاربات، ولا أقول الاستثمارات العقارية واقتناء الذهب والسلع المعمرة.
ولعل عدم ترسخ ثقافة الادخار يحتاج إلى مراجعة وسياسات تعدل المسار.
واقترح في هذا الصدد مبادرة سيكون لها تأثير كبير في تغيير السلوك الادخاري:
تستفيد هذه المبادرة من أربعة عوامل: أولها شبابية التكوين السكاني وتزايد أعداد تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات في البلدان العربية، ثانيها انتشار خدمات الإنترنت في البلدان العربية، وثالثها التوسع في النشاط المصرفي، ورابعها استخدام نظام الرقم القومي الموحد في عدة بلدان عربية.
هذه المبادرة، التي أدعو البلدان العربية لتبنيها، تهدف إلى فتح حساب مالي لكل تلميذ بمدرسة.
فمع بداية العام الدراسي يسجل التلاميذ الجدد في مدارسهم أسماءهم، يسجلون أيضاً تلقائياً في البنوك من خلال فتح حساب مالي إلكتروني يودع فيه مبلغ رمزي ليكن ما يعادل 10 دولارات (بالعملة المحلية).
تمول هذه الإيداعات من البنوك بالتعاون من البنوك المركزية باستخدام هامش محدود من الاحتياطي القانوني.
ستحدث هذه المبادرة نقلة نوعية في الثقافة المالية والادخارية للتلاميذ وذويهم، وتفتح أمامهم آفاق الخدمات المالية مثل الائتمان والاستثمار وأعمال البورصات والتأمين.
وستربح البنوك أعداداً غفيرة من المودعين الجدد بمدخراتً طويلة الأجل، إذ لن يقربوا هذه المدخرات حتى بلوغ السن القانونية، بل قد يضيفوا وذويهم إليها مدخرات عبر الزمن وفقاً لأحوالهم المالية.
من شأن هذه المبادرة، إذا أحسن تطبيقها، باستخدام قاعدة بيانات متكاملة والتنسيق بين البنوك، تحقيق شمول مالي له فائدة حقيقية للأفراد والاقتصاد.
فالخدمات المالية أكثر تنوعاً وأهمية من مجرد فتح حساب لسداد الالتزامات والمستحقات مع ما في ذلك من ضرورة.
فالادخار يجب أن يكون الهدف الأول للشمول المالي، وفتح حساب ادخاري لكل تلميذ وطالب هو بداية لنهج جديد.