بقلم علي هويدي: مخاطر البديل عن الأونروا

بقلم علي هويدي: مخاطر البديل عن الأونروا
بقلم علي هويدي: مخاطر البديل عن الأونروا

لماذا هذا الاستهداف "الجنوني" لوكالة "الأونروا" الذي يشارك فيه صانع القرار الأمريكي والاحتلال الإسرائيلي وتُسخّر له الأدوات؟


ما بدأنا نتابعه من دعوات لتشكيل مؤسسات بديلة عن وكالة "الأونروا" إنما هو خطر استراتيجي يضعف القوة السياسية لقضية اللاجئين، ويحولها إلى قضية إنسانية، حتى إن الدعوات لتعويض برامج وأنشطة أوقفتها الوكالة أو يمكن أن توقفها من خلال منظمات إنسانية وخيرية منتشرة في العالمين العربي والإسلامي والعالمي غير مقبولة على الإطلاق.

لأن هذا سيفتح شهية صانع القرار الأمريكي والاحتلال الإسرائيلي للمزيد من الضغط وتجفيف منابع الدعم المالي من الدول المانحة لـ"الأونروا"، ومن ثم ستكون خطوة تمهيدية لإنهاء دور الوكالة بالكامل، عدا أن تلك الدعوات تنزع عن الكيان الإسرائيلي -وبالتدرج- مسؤولياته تجاه قضية اللاجئين، وتمثّل تراجعاً منهجياً لأهمية الالتزام الدولي من قبل جميع دول الأمم المتحدة تجاه اللاجئين من خلال وكالة "الأونروا".

كما تعتبر تلك الدعوات بمنزلة إلقاء دولاب إنقاذ وتحقيق الحلم الذي يسعى ترامب ونتنياهو و"الحلفاء" إلى تحقيقه جاهدين منذ عقود، بإنهاء عمل الوكالة في ظل الوقت الذي يجري الحديث فيه عن صفقة القرن ومحاولة إزالة ملف اللاجئين عن طاولة المفاوضات المرتقبة بين الكيان الإسرائيلي والسلطة الوطنية الفلسطينية.

لكن لماذا هذا الاستهداف "الجنوني" لوكالة "الأونروا" الذي يشارك فيه صانع القرار الأمريكي والاحتلال الإسرائيلي وتُسخّر له الأدوات من السياسيين والكتاب والإعلاميين والدبلوماسيين؟

فَشِلَ اتفاق أوسلو و"ملحقاته" بالإطاحة بـ"الأونروا" وبقضية اللاجئين وحق العودة، سواء على مستوى نقل الخدمات إلى وكالة أخرى عربية أو إسلامية أو بتحويل الخدمات إلى الدول المضيفة أو أي منظمة أممية أخرى، لا بل إن التجديد الأخير لعمل الوكالة، ديسمبر 2016، لثلاث سنوات، حظي بموافقة ودعم 167 دولة، لهذا بات استمرار عمل الوكالة يشكّل عنصر قلق وإزعاج حقيقيين للاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأمريكية وحلفائهما يُراد التخلص منها بأي وسيلة ممكنة، وأصبحت كالشوكة في حلق الاحتلال، فهي الشاهد على جريمة الاحتلال باغتصاب فلسطين وطرد وتشريد أهلها، وتديم صفة اللاجئين لنحو 6 ملايين لاجئ فلسطيني بحسب قواعد الأمم المتحدة التي تعتبر أن من ترك بيته في عام 1948 في فلسطين هو لاجئ وجميع ذرّيته أيضاً لاجئون، وتغذي روح اللاجئين وتمسكهم بحقهم في العودة، وتعبر عن مسؤولية الأمم المتحدة السياسية تجاه اللاجئين، بعد أن اعترف المجتمع الدولي بالشرعية المزيّفة للكيان الإسرائيلي فوق أرض فلسطين وفق القرار 181 لتاريخ 1947/11/29، لذلك يُراد إنهاء خدماتها أو تفكيكها وبعثرة برامجها.

وكالة "الأونروا" في بدايات تأسيسها تختلف عن الوكالة اليوم؛ وفقاً للقرار رقم 212 في 1948/11/19، أسست الأمم المتحدة "هيئة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين"؛ وذلك لتقديم المعونة للاجئين الفلسطينيين وتنسيق الخدمات التي تقدمها لهم المنظمات غير الحكومية وبعض منظمات الأمم المتحدة الأخرى؛ مثل "اليونيسف"، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية والزراعة الدولية، والمنظمة العالمية للاجئين.

بعد إنشاء "هيئة الأمم المتحدة" فقط بأسبوعين، صدر القرار 194 عن الجمعية العامة لتاريخ 1948/12/11، والذي بموجبه تم تأكيد حق العودة والتعويض واستعادة الممتلكات، وتشكيل لجنة التوفيق الدولية حول فلسطين (UNCCP) تضمّ كلاً من تركيا وفرنسا وأمريكا، وتكليفها بمهمة وضع آليات لتطبيق حق عودة اللاجئين إلى أماكن سكناهم في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وبعد مرور سنة أنشأت الجمعية العامة للأمم المتحدة وكالة "الأونروا" وفق القرار 302 لتاريخ 1949/12/8 كوكالة مؤقتة لمدة سنة واحدة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتطبيق القرار 194، فديباجة القرار 302، والفقرة الخامسة والفقرة العشرون تشير إلى أن إنهاء ولاية "الأونروا" مرتبط بتطبيق القرار الأممي.

في العام 1949 أُعطيت الوكالة مهمة "تشغيل" اللاجئين الفلسطينيين، بالإضافة إلى توفير الخدمات الإنسانية من صحة وتعليم وإغاثة، والتنسيق مع الدول المُضيفة لإدماج اللاجئين في اقتصاديات المنطقة والعمل على توطين غير الراغبين بالعودة ويقيمون في الدول المضيفة؛ في لبنان وسوريا والأردن ومصر.

خاصة أن الأمم المتحدة أجبرت تلك الدول على توقيع اتفاقيات الهدنة مع الاحتلال الإسرائيلي في فترة قياسية؛ بين شهريْ فبراير ويوليو 1949، ما أنشأ مناخاً سياسياً مناسباً للبدء بعملية التوطين دون اعتراض الدول المضيفة، واستغلال الوضع الإنساني المتردّي للاجئين، لكن من أوقف المشروع هم اللاجئون أنفسهم؛ بوعيهم وإدراكهم لما كان يُحاك ضدهم.

في الوقت الذي جرى فيه تعطيل دور "لجنة التوفيق الدولية" منذ خمسينيات القرن الماضي حتى الآن، وعملياً تعطيل أي محاولات لإيجاد آليات لتطبيق حق العودة أو توفير الحماية للاجئين الفلسطينيين بمعناها الشمولي، القانوني والإنساني والجسدي، استمرّت وكالة "الأونروا" بتقديم خدماتها لتحقّق هدفين رئيسيين، الأول إنساني بتقديم المساعدات، والثاني سياسي بإبراز قضية اللاجئين وبقاء الوكالة كشاهد حي على مأساة اللجوء والتشرد إلى حين العودة.

لا تزال ولاية الوكالة مؤقتة يتم تجديدها كل ثلاث سنوات، وآخر تجديد لشهر يونيو 2020. جرى التأكيد وفي أكثر من مرة على الهدف الذي لأجله تأسست الوكالة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وبتاريخ 1950/12/12 صدر القرار رقم 393، وبموجبه أسندت الجمعية العامة للأمم المتحدة لـ "الأونروا" مهمة العمل على دمج اللاجئين الفلسطينيين في اقتصادات المنطقة، بجانب تقديم الخدمات الإغاثية لهم، وفي العام 1959 قدم الأمين العام للأمم المتحدة، داغ همرشولد، ورقة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة تتضمن مقترحاً يقضي بتوسيع برامج تأهيل اللاجئين وتعزيز قدراتهم على إعالة أنفسهم، والاستغناء عن المساعدات التي تقدمها إليهم وكالة "الأونروا"، وتوطينهم في الأماكن التي يوجدون فيها، مع مناشدة الدول العربية المضيفة للاجئين التعاون مع الوكالة الدولية".

تعتمد وكالة "الأونروا" في ميزانيتها على الدول المانحة، وتماشياً مع الهدف الرئيس الذي أُنشئت لأجله؛ وهو دمج اللاجئين الفلسطينيين في الدول المضيفة، لا نستغرب أن الكيان الإسرائيلي كان من المساهمين مالياً في صندوق وكالة "الأونروا" حتى سنة 1995، ففي سنة 1991 بلغت مساهمات الاحتلال 68900 دولار، وفي سنة 1992 بلغت 112141 دولاراً، ومع توقيع اتفاق أوسلو في العام 1993 وصلت مساهمات الاحتلال إلى ذروتها لتصل إلى 1422079 دولاراً، لتنفيذ برامج بالتنسيق مع الدول المضيفة يكون هدفها دمج اللاجئ الفلسطيني في أماكن تواجده تماشياً مع المرحلة السياسية الجديدة والاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الإسرائيلي، والتخلص الفعلي من حق اللاجئين بالعودة.

توقفت مساهمات الاحتلال الإسرائيلي في صندوق الوكالة في العام 1995، وهو العام الذي شهد توقيع اتفاقية يوسي بيلين أبو مازن في سويسرا، في نهاية شهر أكتوبر من العام 1995، وتم تأجيل الإعلان عنها بعد اغتيال رابين، مطلع شهر نوفمبر من العام نفسه.

على الرغم من أنه لم يتم تبنّي الاتفاقية رسمياً من قبل حكومة الاحتلال الإسرائيلي أو الحكومة الفلسطينية، فقد أعلن عنها بيلين في 7/31 و1996/11/29 بأنها ستكون مرجعاً مهماً للمفاوضين السياسيين حول مرحلة الحل الدائم.

ورد في البند الرابع من الاتفاقية: "تَحِل هيئة دولية جديدة محل وكالة غوث اللاجئين الأونروا لتعمل على إعادة تأهيل وتأمين استيعاب اللاجئين في دول وأماكن إقامتهم، والعمل على تطوير الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية، وتذويبهم في الحياة اليومية للمجتمعات الذي يعيشون في محيطها، وتتكفل حكومة حزب العمل بالتعامل ثنائياً مع الدول المعنيّة والأطراف الدولية الراعية، من دون صخب أو ضجيج إعلامي؛ حتى لا يشكّل ذلك إحراجاً للسلطة، وممارسة الضغوط الكفيلة بانتزاع المواقف الدولية الداعمة لهذا الهدف بالتعاون مع الدول المضيفة لضمان إغلاق الملف نهائياً".

جاء التوقيع على وثيقة جنيف البحر الميت في 2003/12/1 لـ "حل القضية الفلسطينية" مستنداً إلى أسس وثيقة بيلين أبو مازن، وُصفت الوثيقة بأنها "أخطر مؤامرات تصفية القضية الفلسطينية"، ولاقت دعماً وتأييداً دوليين؛ فقد تم التوقيع بحضور الرئيس الأمريكي الأسبق، كارتر، ورئيس الاتحاد الأوروبي والمنسق الأعلى السابق للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، خافير سولانا، والممثل الخاص لرئيس وزراء بريطانيا، لورد ليفي، ووزراء خارجية أوروبيين.

حول "الأونروا" دعت الوثيقة التي وقعها عن الجانب الفلسطيني وزير الإعلام حينها، ياسر عبد ربه، وعن العدو الإسرائيلي وزير العدل، يوسي بيلين، إلى تشكيل لجنة دولية خاصة مهمتها إنهاء عمل الوكالة، مكوّنة من الولايات المتحدة و"الأونروا" والدول العربية المضيفة والاتحاد الأوروبي وسويسرا وكندا والنرويج واليابان والبنك الدولي وروسيا وغيرها، جاء في الوثيقة: "على الوكالة أن تكفّ عن الوجود بعد 5 سنوات من بداية عمل اللجنة".

تعرض اللجنة جدولاً زمنياً لنهاية نشاط الوكالة ونقل وظائفها إلى الدول المضيفة". وعاد بيلين وتحدّث عن رؤيته لحل "الأونروا" في 2008/6/23 في معهد كارنيجي الأمريكي، حين دعا إلى "حل الوكالة الدولية الأونروا واستبدالها بالمفوضية العليا لشؤون اللاجئين (UNHCR)".

ذكرت صحيفة "إسرائيل اليوم"، في 2011/12/6 "أن "إسرائيل" تحرِّض على إغلاق وكالة "الأونروا" بحجة أن هذه الوكالة تشكل عقبة أمام أي اتفاق مستقبلي مع الفلسطينيين بسبب المعايير المختلفة لوضع اللاجئ الفلسطيني"، أما عضو الكنيست عن "حزب الاستقلال"، عينات بلف فقالت: "إننا نؤيّد مساعدة الفلسطينيين في الأمم المتحدة في مجال التعليم والصحة، ولكن ليس عن طريق هذه الوكالة التي تضر بجهود السلام".

ودعا سلفان شالوم، وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي السابق، في تصريح له في 2005/11/7 إلى نقل صلاحيات وكالة "الأونروا" الى السلطة الوطنية الفلسطينية. على الرغم من أن ما يدفع في صندوق الوكالة الدولية "الأونروا" هو عمل تطوعي يقوم به كثير من الدول العربية والغربية مشكورة، فإن الأمم المتحدة تعتبر مسؤولة مباشرة عن تمويل الوكالة الدولية في حال واجهت أي عجز مالي؛ لأن "الأونروا" واحدة من مؤسسات الأمم المتحدة، وفي حال تقاعس أي من الدول عن الإيفاء بالتزاماتها، فعلى صندوق الأمم المتحدة المركزي أن يلبّي الاحتياجات ويعوض العجز ولو على سبيل الإقراض.

في هذا الإطار نستطيع أن نتفهم بأن العجز المالي والتخبط الإداري الحالي في الوكالة ليس من فراغ؛ فهو يأتي في سياق عمل منهجي سياسي أمريكي إسرائيلي يهدف للضغط على "الأونروا" وحل نفسها بنفسها، والضغط عليها مالياً لرفع توصيات وابتكار حلول "إبداعية"؛ إما بتحويل خدماتها إلى الدول المضيفة أو تحويل الخدمات كلها أو جزء منها إلى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، أو السعي لايجاد مؤسسة بديلة تقدم الخدمات الإنسانية فقط، وقد بدأ هذا الضغط المالي مع اتخاذ إدارة الرئيس الأمريكي ترامب قراراً بتجميد مبالغ مالية كان مقرراً أن تدفعها إدارته في صندوق "الأونروا"، منذ بداية العام 2018، قيمتها نحو 350 مليون دولار، فالدول المانحة خاصة الغربية منها ليست بجمعيات خيرية ولا تقدم وجبات ساخنة، بل لها أهداف وغايات سياسية خاصة بها، وليس صحيحاً بأن أسباب العجز المالي في صندوق الوكالة يعود إلى اختلاف الأولويات لدى تلك الدول، وهي التي تدفع لتغذية الحروب المبالغ الخيالية، فعلى سبيل المثال تبرعت الدول المانحة لسلطة الحكم الذاتي في العام 1996 بمبلغ ملياري دولار؛ والسبب في ذلك اقتصادي وسياسي يتماشى مع أهداف توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير والاحتلال الإسرائيلي عام 1993.

تكرّس دعوات البحث عن "مؤسسة جديدة" بديلة عن "الأونروا" بأن أزمة الوكالة هي أزمة مالية، وأنه بالإمكان من خلال المؤسسة الجديدة توفير تلك المبالغ المطلوبة وحل المشكلة، وسيكون صحيحاً وسيتم ضخ الأموال الخيالية لأنه سيجري -من خلال تلك المؤسسة- تفريغ المعنى السياسي تجاه اللاجئين من خلال "الأونروا"، وحينها لن يتأخر ترامب والحلفاء عن دعم تلك المؤسسة وبالمليارات.