بقلم إياد الدليمي: العراق .. حتى لا يضيع الدم
أن يخرج ابن الجنوب، الشيعي وفقاً للتصنيف المذهبي، ويحرق صور قائد الثورة الإسلامية الإيرانية، الخميني، وصور مرشد الجمهورية علي خامنئي، فذاك لعمري ما لم يكن بحسبان أحد.
لم تكن تظاهرات مخططاً لها، كانت عفوية بالكامل، هكذا بدأت في البصرة الجنوبية، المدينة التي تغفو على بئر نفط كبير، قادر ليس على تغيير واقع العراق والعراقيين وإنما خمس دول أخرى بحجم مساحة ونفوس العراق، ولكن بعد خمسة عشر عاماً من حكم أحزاب طائفية تابعة، بات الإنسان البصري يستجدي أبسط حقوقه، فلا ماء حلو، ولا كهرباء، ولا وظائف ولا خدمات أساسية، في وقت تتقافز الأرقام المليارية من تحت أقدامه.
وإذا كان تموز في الأسطورة البابلية هو شهر الخصب والنماء، فإنه بات في عُرف العراقيين شهر التظاهرات والمطالبة بالحقوق، فما إن يهل تموز على العراقيين حتى يتم تقليص ساعات التيار الكهربائي إلى أدنى حد لها، يرافق ذلك ارتفاع ناري في درجات الحرارة يصل في بعض الأحيان إلى ستين درجة مئوية، حال يتكرر كل عام، فلا يجد العراقي أمامه من حل سوى أن يخرج إلى الشارع محاولاً أن يوصل صوته إلى من يفترض أنها حكومة ترعى مصالحه.
لم يتغير شيء، منذ سنوات عدة وذات السيناريو يتكرر؛ يأتي تموز، ترتفع الحرارة، تقلص ساعات التيار الكهربائي، يخرج العراقيون للتظاهر، أيام وينقضي كل شيء، يتحسن الجو تدريجياً، الحكومة وتحت وتيرة الضغط تلجأ إلى حلول ترقيعية، وهكذا دواليك.
يبدو أن الأمر هذه المرة مختلف، أو على الأقل، إن شنئا الدقة، أكثر حدة من السنوات السابقة، فلقد ارتفعت وتيرة المطالبة بالخدمات في أكثر من مدينة عراقية، ولعل جوهر الاختلاف هذه المرة أن الأمر بدأ من البصرة والعمارة وامتد إلى النجف وكربلاء وبابل والديوانية، أي في مدن الجنوب التي يفترض أنها مدن يقود أحزابها الدولة والسلطة بكافة أجهزتها، الأمنية والخدمية، التشريعي منها والتنفيذي، ناهيك طبعاً عن الشخصيات الاعتبارية التي تحرك هذا الشارع في كل مرة تحتاج له.
أن يخرج ابن الجنوب، الشيعي وفقاً للتصنيف المذهبي، ويحرق صور قائد الثورة الإسلامية الإيرانية، الخميني، وصور مرشد الجمهورية علي خامنئي، ويحرق مقرات الأحزاب الشيعية، ومقار أخرى تابعة للحشد الشعبي، الذي طالما تم الترويج له على أنه خادم الشعب والمذهب في الجنوب، فذاك لعمري ما لم يكن بحسبان أحد من قادة تلك الأحزاب ولا الحكومة ولا حتى المراجع الدينية، الظاهر منها والغائب.
لقد تم استخدام القوة في إخماد هذا التحرك الجماهيري العفوي، ولم تتوان الأجهزة الأمنية عن قتل العشرات من الشباب العراقي الثائر والغاضب، بل الأكثر من ذلك أن الحكومة لم تجد من حلول سوى بقطع الإنتر نت عن العراق، كمحاولة لعزل المتظاهرين، وراحت تلوح بإجراءات عقابية ضد من وصفتهم بالمندسين، أو البعثيين الذين يقودون مؤامرة أمريكية إسرائيلية عربية، ثم أخيراً الحديث عن وجود مندسين من المحافظات الغربية، السنية، لتخريب التظاهرات وحرفها عن مسارها السلمي، في محاولة جديدة للجوء إلى الطائفية المقيتة لدق إسفين جديد بين العراقيين.
اليوم هناك دماء عراقية سالت على الأرض، دماء قتلت بيد عراقية، لكنها يد تابعة، ليست حرة، مرتهنة لإيران التي باتت تخشى من تمدد تلك الانتفاضة الجنوبية، رغم أن البعض ما زال يعتقد أن إيران حركت تلك التظاهرات، متناسياً أن هذه التظاهرات أكلت من جرف إيران المتهاوي أصلاً في العراق، ولعل شعارات أبناء الجنوب" إيران بره بره" دليل آخر على حجم ما خسرته إيران بين حاضنة كانت تعتقد إيران أنها تابعة لها.
وحتى لا تضيع هذه الدماء، على كل المتظاهرين أن يواصلوا مسيرتهم، أن لا يعودوا حتى لو وعدهم حيدر العبادي بتلبية مطالبهم، لآنه ببساطة لا يستطيع، ولن يتمكن من تحقيق أي من وعوده، فلقد سبق له وسبق لمن سبقه أن أطلق مثلها العشرات، دون أن ينفذ منها شيئاً.
كما أن على المتظاهرين أن لا يسمحوا بعمائم المذهب بالتدخل، فلقد أثبتت التجربة أن هذه العمائم تُستعمل مثلها مثل أي سياسي أو حزبي، من إيران ومن غير إيران، فالحذر الحذر من السماح لهم بالدخول بينكم.
أخيراً، يجب أن تظهر تنسيقات شعبية من بين الجموع، قد يبدو الأمر صعباً في ظل حملات القمع، ولكن هذا أمر لا بد منه، يجب اختيار شخصيات شبابية غير مسيسة ، قادرة على أن تصوغ المطالب الجماهيرية وأن تمثل الجموع، وأن تلهم بقية الشباب ممَّن ما زال جالساً يتفرج، وأن تعمل هذه الشخصيات الشبابية والتنسيقيات من أجل دفع المدن والمحافظات الأخرى للخروج بتظاهرات جماهيرية أسوة ببقية المدن، حتى على الأقل نضمن بأن تخرج هذه التظاهرات بجديد وأن تحقق شيئاً ليس من مطالبها بتوفير الخدمات وإنما بتوجيه إنذار شديد اللهجة لكل من يجلس اليوم على كرسي القيادة في العراق، بأن الأرض تزلزلت وأن الساعة باتت قريبة.