بقلم الباحث محمد حسن القدو: الانتخابات "العالمية" في تركيا
الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التي ستجري في الرابع والعشرين من يونيو 2018، تنال الحظ الأوفر من التغطيات الإعلامية العالمية؛ فهي تكافئ انتخابات الرئاسة الأمريكية، وربما لها أهمية تفوق الأخيرة؛ لكونها تعتبر مفصلاً جديداً في تاريخ تركيا الحديث.
منذ عام 2002، وبعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم، عمل قادة الحزب على إخراج تركيا من عزلتها الإقليمية والدولية وإعطائها دور الدولة المركزية في المنطقة، لم تتعهد بها الحكومات السابقة بالاهتمام الحقيقي في قضايا المنطقة بصورة عامة وقضية فلسطين بصورة خاصة، ما جعلها تحظى بأن تكون اللاعب الرئيسي في تلك القضية المصيرية، ومما زاد من استباقها كلاعب رئيسي المداخلة الحازمة للرئيس أردوغان في منتدى دافوس ضد الرئيس الإسرائيلي آنذاك.
في غمرة الإصلاحات الدستورية والتعديلات التي طرأت على دستور 1981، الذي حقّق الحدّ الأدنى والمقبول من المعايير الأوروبية في كافة الأمور السياسية والاجتماعية والرقابية والإنسانية، رأى قادة حزب العدالة والتنمية عدم كفاءة النظام البرلماني في استيعاب التطلعات والآمال الكبيرة والتحولات الاقتصادية والاجتماعية باعتباره الأرض الرخوة، الذي كان مانعاً حقيقياً للكثير من القرارات التي تتطلّب اصطياد فرصة واقعية ملائمة يكون للإنسان القيادي الذي يمتلك صلاحيات واسعة دور مباشر لتنفيذه دون أن تكون لعصا البرلمانيين وأعداد أصواتهم في الموافقات والامتناعات أي تأثير، وعليه فقد وُلدت فكرة التحول إلى النظام الرئاسي منذ فترة. وهذا التحوّل الذي سيسهم في إنقاذ تركيا من براثن الحكومات الائتلافية سيكون في الوقت نفسه خلاص النظام من أزمة الرئاسة المتكرّرة منذ ستينيات القرن الماضي، مع إبقاء خصوصية البرلمان في سن القوانين والقرارات التي ترقى بمستوى القانون.
ففي أول انتخاب مباشر لمنصب رئيس الجمهورية من قبل الشعب منذ استقلال تركيا، الذي يعتبر مفصلاً حقيقياً في الشأن التركي الداخلي، لكن وجود شخصية كارزمية قيادية تدخل في الانتخابات تحول قضية الانتخابات من شأنها الداخلي إلى شأن دولي يترقب نتائجها معظم مسؤولي دول العالم قبل الإعلام والصحافة؛ ابتداء من البيت الأبيض وانتهاء بأصغر دولة سواء أكانت إقليمية أو غيرها، مروراً بكل الدول والعواصم العربية والإسلامية، حتى بدا للعيان بأن الانتخابات التركية ستغير وجه العالم.
هناك الكثير من قادة الدول يتمنون الفوز للرئيس أردوغان، وأيضاً هناك من تسمع دقات قلبه المتسارع خوفاً ووجلاً من فوزه، والفريقان لهما ما يدفعهما إلى اتخاذ موقفها من الفوز وعدم الفوز.
لكن ما يثير الانتباه، وقبل أن نتكلّم بشيء من التفصيل على نتائج الانتخابات وتأثيرها المباشر وغير المباشر على الدول الإقليمية، هي الدعوة المقدمة من مستشارة ألمانيا ميركل للرئيس أردوغان لزيارة ألمانيا بعد الانتخابات المزمع إجراؤها في تركيا، وألمانيا وميركل التي كانت على خلاف منذ فترة ليست بالقصيرة مع قيادة الرئيس أردوغان على مجمل من المواضيع الدولية والإقليمية، حيث أصبحت تلك الخلافات تنذر بالمقاطعة التامة في علاقات الدولتين، ما يعني أن ألمانيا التي ترى فوز أردوغان هو خير ناصر لاستمرار مؤسسة الاتحاد الأوروبي، التي عانت ما عانت من صعوبات اقتصادية، والمديونية التي مُني بها بعض دولها وظهور شبح تفكّكها بعد خروج بريطانيا منها وتكفّل ألمانيا بالجزء الأكبر في معالجة الآثار السلبية لخروج بريطانيا.
إضافة إلى كل هذا فإن ألمانيا ومن خلفها أوروبا قد ملّوا من الإملاءات الأمريكية ومن فرض هيمنتها على دولها، التي سبّبت الكثير من الإخفاقات الاقتصادية والسياسية، بل التناقضات أيضاً في عهد الإدارات الأمريكية الماضية واللاحقة، ومن بينها هي كيفية إدارة الأزمة مع إيران، التي كانت سبباً رئيسياً في اختلاف وجهة النظر الأوروبية مع أمريكا، التي نقضت الاتفاق الإيراني مع مجموعة الدول الست التي أبرمت العقد في السابق، وبضغط واضح من الرئيس الأمريكي السابق أوباما، ويمكن قراءة دعوة المستشارة ميركل للرئيس أردوغان، الذي عارض كالأوروبيين انسحاب أمريكا من الاتفاقية، كدليل على تطلّع المستشارة الألمانية لأداء دور كبير لتركيا في تلك المسألة وغيرها من المسائل التي نوهنا بها.
بريطانيا التي خرجت من مظلّة الاتحاد الأوروبي ونزعت عنها رداءً ثقيلاً كانت تؤرّق مضاجع ولاتها بسبب اضطرارهم إلى تحمّل عبء الضائقة الاقتصادية لليونان وإيطاليا وإسبانيا، التي وصلت في بعض الدول إلى حدّ الإفلاس كاليونان، ترى أن تركيا من الممكن جداً أن تكون حليفة استراتيجية وبكفاءة اقتصادية عالية للمستقبل، التي تملك كافة السبل لأن تكون سوقاً وسيطاً تستطيع من خلاله الوصول إلى أكثر من 123 سوقاً دولياً، وهذا بحد ذاته هو الشغل الشاغل لها بعد ابتعادها عن سوق أوروبا العجوز، وبالطبع فإن تركيا، التي كانت المبادِرة إلى إقامة وتطوير العلاقات مع لندن، كانت في عهد الرئيس أردوغان، لذا فإنها تترقّب وباهتمام بالغ فوز الرئيس أردوغان في الانتخابات المقبلة، والدولتان ألمانيا وبريطانيا لهما مصالحهما الخاصة في فوز الرئيس أردوغان وبما لا يقبل الشك أن ميزان التحالفات القادمة والعلاقات المتطوّرة بين تركيا وهاتين الدولتين سيكون في صدارة اهتمامات حكوماتهما بعد ظهور النتائج وتحقيق فوز الرئيس أردوغان.
أمريكا التي يهمّها أن تكون تركيا دولة قوية، وهذا بالطبع ليس محل نقاش، ولكن محل النقاش هو الصيغة المقبولة من قبل الإدارة الأمريكية للرئيس أردوغان، فأمريكا هي دولة حليفة لتركيا، لكن لا تستسيغ أمريكا كلمة الدولة الحليفة، بل تجد أن لزاماً عليها ومن خلال مفهومها الذي يبعث على الاستكبار، أن تكون الدولة الحليفة قائمة على نوع من أنواع الخضوع المقترن بتفضيل مصلحة أمريكا على مصلحتها الوطنية لتلك الدولة، وتكون بالنهاية تابعة بشكل من الأشكال لها، وبالطبع فإن الكثير من الشواهد تثبت ذلك، فمثلاً كثير من الدول الأوروبية قد سلكت هذه التبعيّة صاغرة ومنها بريطانيا، وخلال عدة حكومات، وخصوصاً في عهد رئيسة وزرائها تاتشر، التي مُنيت بالكثير من الانتقادات من مواطنيها ومن دول أوروبا، ومن هنا نرى أن وجود قيادة في دولة مسلمة تصرّ على علاقات متكافئة أو على الأقل تنادي باستقلالية قراراتها بما يضمن مصلحتها القومية كأول اهتماماتها في إقامة علاقاتها هي مسألة ليست من السهل تقبّلها من قبل الإدارة الأمريكية ولكن لكل حادث حديث.
وبعيداً عن أمريكا وأوروبا، فالحال مختلف تماماً للمترقبين لنتائج الانتخابات التركية من الدول العربية، وبطبيعة الحال يجب أن نذكر أن الدول العربية لم تكن لتبالي بالشأن التركي لولا فرض تركيا نفسها كدولة مركزية في المنطقة، فقد مر الكثير من الانتخابات السابقة قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، دون أي إشارة صدرت من إحدى الدول العربية سواء كانت مؤيدة أو مناهضة للحكومات المنتخبة، لكن الأمر الآن يتمثل في وصول رئيس دولة إسلامية يمتلك زمام المبادرة تماماً في الشأن الإقليمي، ويتمتّع بعدها بصلاحيات لا تستطيع الكتل البرلمانية المعارضة وضع العصا في عجلة التقدّم والرؤية التركية الأردوغانية لعام 2023، التي يخطط لها.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن التجربة التركية كدولة إسلامية وذات نظام ديمقراطي، الذي أنجز الكثير من تطلّعات الشعب التركي ومنع التصادم بين الفكر الإسلامي والنظام الديمقراطي، بل استطاع توظيف الخاصية الإسلامية لتركيا وتفعيلها في مختلف شؤون الحياة، ومنها الممارسات الديمقراطية، دون تسجيل أي تقاطع في المفهومين، وهذه هي إحدى النقاط التي ما زالت غير مفهومة وغير مستثمرة في شؤون الدول العربية بصورة عامة، وأيضاً هي إحدى نقاط الخلاف وربما التخوفات العربية من التجربة التركية.
ومن المؤكد أن لباقي الدول في مختلف القارات نفس الاهتمامات والتطلعات لنتائج الانتخابات التركية المفصلية والمرحلية أو بالأحرى الانتخابات العالمية التي تجرى في تركيا.