بقلم محمد أبو الغار: «حكايات يوسف تادرس» رواية مبهرة!
حصلت هذه الرواية الرائعة على جائزة نجيب محفوظ التى تقدمها كل عام الجامعة الأمريكية بالقاهرة. كاتب الرواية عادل عصمت لم يسعدنى الحظ بالقراءة له من قبل وعلمت أنه كتب أربع روايات مسبقاً. لقد أخذتنى هذه الرواية وجذبتنى إلى عالم آخر وتركتنى أحلق فى السماء وأستمر فى التفكير بعد الانتهاء من قراءتها.
الرواية تتناول عائلة قبطية عبر ثلاثة أجيال، جيل الجد الخواجة تادرس بشرى الذى يلبس الجلابية البلدى وتاجر فى الحبوب ولا يعرف القراءة بالرغم من تظاهره بمعرفة القراءة والكتابة والذى استطاع أن يجمع ثروة من تجارته ويبنى بيته فى طنطا، وباع قطعاً صغيرة من الأراضى بناها المشترون بيوتاً صغيرة تحولت إلى حى عشوائى التحم بالأحياء المجاورة.
توفت زوجة الخواجة تادرس وغرق ابنه ميشيل فى النيل فى احتفالات مولد العذراء فى المنيا وتزوج سيدة أخرى أنجبت له بطلنا يوسف. كانت أم يوسف تقوم بعمل خيرى فى جمعية لمساعدة فقراء الأقباط ويعرفها الكل وكان يوسف يساعدها. يوسف كان لصيقاً بأمه وبعيداً عن أبيه الذى سيطرت عليه ابنته من زوجته الأولى.
الرواية تحكى حكاية يوسف من ستينيات القرن الماضى حتى الآن. يوسف رسام موهوب بالفطرة وبرز نبوغه فى المدرسة ودخل كلية الفنون الجميلة فى الإسكندرية ولكن والده أفلس واضطر أن يترك الكلية ويعود إلى بلده طنطا ليساعد العائلة والتحق بكلية آداب طنطا وتخرج فيها.
تحكى الرواية طفولة يوسف وكارثة 67 وماذا قال أبوه وأهل المنطقة وهم يشاهدون الأحداث فى التليفزيون الوحيد الموجود فى الحى فى بيت الخواجة تادرس. وتدور معظم أحداث الرواية فى مدينة طنطا بأسماء شوارعها وحواريها الأصلية.
فى الفترة الأولى درس يوسف الرسم فى مرسم قصر الثقافة فى طنطا ثم اشترك فى جماعة ثقافية من الشباب تعمل بالفن والثقافة. أسماء المؤسسين كلها مسلمين. وكانت الصداقة بينهم رائعة لا يوجد شعور بأى طائفية. وفى الزقاق الذى كانت تسكن فيه عائلة يوسف كان المسلمون والمسيحيون يتعايشون بطريقة طبيعية ثم يدور الزمن وتتوالى الأحداث وتظهر ملامح الطائفية على استحياء ثم بوضوح ثم ينقسم المجتمع بصورة واضحة.
تزوج يوسف من صديقة لأخته وأنجب ولدين ميشيل وفادى. وعمل يوسف مدرساً فى مدرسة بنات بطنطا وقد وقع فى حب مدرسة الرسم المسلمة التى سعت إليه وأحبته وضغطت للارتباط به وانتشرت الحكاية فى المدرسة ثم فى طنطا فأصبحت حياته معرضة للخطر من أحد الملتحين المتشددين وتدخل قريب له فى نقله إلى مدرسة الطور فى جنوب سيناء. قصة الحب شغلت جزءاً هاماً وكبيراً من الرواية. وطلبت البنت الارتباط به والسفر للخارج. وترتب على معرفة زوجة يوسف بالأمر توتر العلاقة بينهما. هذا الجزء مكتوب بحرفية ولغة فنية تتعرض لقصص الحب مع اختلاف الدين. يقول يوسف عندما نقل إلى مدرسة الطور هناك فى هذا البعد طاردتنى مسيحيتى لم تتركنى لحظة وحدى كنت المسيحى الوحيد فى البيت والمدرسة وخيل إلى أننى المسيحى الوحيد فى الدنيا.
وبعد ذلك وأثناء إشرافه على مراقبة الامتحانات فى الإسماعيلية لمدة أسبوعين وقعت فى غرامه مدرسة مسيحية متزوجة تراقب على الامتحانات وسافرت معه إلى الطور وعاشت معه لمدة أسبوع فى تجربة جنسية غرامية ثم اختفت بعد ذلك. وقد تدخلت الكنيسة فى محاولة هداية يوسف تادرس، ويدور فى عقل يوسف نقاش أحادى طويل ممتع عن الأديان وفلسفة الحياة.
أدت هذه المطبات العنيفة فى حياة يوسف والإحباط من تعليق زملائه القدامى على أعماله الفنية إلى توقفه تماماً عن الرسم. ثم فى النهاية خرج من مرحلة الاكتئاب والفشل المستمر بالعودة إلى الرسم فى حالة توهج وإبداع غير مسبوق.
الرواية بها كل مميزات الروايات العظيمة. هى تحكى التحولات التى حدثت فى مصر من عصر عبدالناصر إلى مبارك والتغيرات التى حدثت على الحالة النفسية الحياتية للأقباط بتغيير النظام وانتشار الإسلام السياسى.
تميزت الرواية بأسلوب بسيط وسهل ولكنه عميق والمستوى الفكرى والفلسفى فيها عال، ولكنها فى نفس الوقت سهلة القراءة وغير معقدة. وأعتقد أن الرواية والحوار والأسلوب بها عدة مستويات مختلفة ومتباينة. تتحدث الرواية عن شخصيات معروفة بالاسم من الفنانين العالميين والفنانين المصريين وقدم نقداً إيجابياً للوحات وجوه الفيوم ونقداً سلبياً لبيكاسو عن اللوحة الشهيرة الجرونيكا التى تصور أهوال الحرب الأهلية الإسبانية.
هناك بعض العبارات المؤثرة والتى تجسم بعض أحداث الرواية مثل مقولته عن وجوه الفيوم. «تعلمت رسم وجوه الفيوم وتعرفت على الصعوبات الكامنة فيها. هذه الروح السائلة خلف الملامح، هذا الشرود فيه من الحيوية ما يعادل الطاقة المتفجرة لقنبلة ذرية».
فى الرواية أحداث ومشاعر رقيقة وملتبسة عن علاقة يوسف بالكنيسة وتفكيره فى دخول الدير والحوار الداخلى مع نفسه عن الفكرة. وفى النهاية يفكر يوسف تادرس فى السفر لأمريكا لزيارة ابنه فادى واللعب مع حفيده ويختم الرواية قائلاً: بربك قل لى متى سيطول النور هذه البلاد.
قم يا مصرى مصر دايماً بتناديك.