بقلم عبد المنعم سعيد: رحلات إسماعيل سراج الدين إلى الممالك السبعة!

هذا نوع جديد من الأدب، جوهره السياسة نعم، ولكن الخلطة فريدة، فاللغة أدبية بامتياز، والشعر ليس غائبا عنها، بل إنها فى النهاية تذكر برحلات «جليفر»، ولكنها فى كل الأحوال تذكر بقوة بشخص إسماعيل سراج الدين. الرجل معروف بمكتبة الإسكندرية التى ظل مديرا لها منذ إنشائها عام ٢٠٠٢ كبعث للمكتبة البطلمية فى القرن الثالث قبل الميلاد، ولكن تاريخه أسبق من ذلك بكثير فى مجالات مختلفة من المعرفة، والعمل فى مؤسسات دولية متنوعة، وله من الكتب والكتابات فى مجالات عديدة ما يصعب على الحصر.


خلف كل هذه الوجوه المختلفة يوجد أديب كامن، ضلت قدماه أو أصابت، عندما اقتحم عوالم أخرى من العلم ومعالجة احتياجات إنسانية مستحيلة وعصية على العلاج، ولكن لأمثاله من أصحاب الهمة فإنها دوما ملحة. فلم يكن لمثله أن يستبد الجهل أو الفقر بالدنيا ويقف هو بعيدا فى ملاذ آمن يحاضر فى جامعة مرموقة أو يقود مؤسسة ثقافية شهيرة، وإنما الذى لا بد منه هو أن يساهم مفكرا وعالما وأديبا فى حل ألغاز مستعصية.

وعلى مدى سنوات مضت جرى اتفاق غير مكتوب بينى وبينه وهو أن أرسل له ما أكتب أسبوعيا، وهو من وقت لآخر يرسل لى آخر إبداعاته. وكانت هذه القطعة «قصة رحلات إلى الممالك السبعة» هى ما أرسله، والتى قرأتها مندهشا، ولم أتمالك إلا أن أشارك الجمهور فيها، فالقصة فى النهاية لا تقص فقط عن ممالك سبعة هى عالمنا المعاصر، وإنما عن صاحبنا الذى تجول فوقها كلها ناظرا لها بعين المثقف، وعقل العالم، وقلب الأديب.

وربما كان أفضل ما نفعله هو أن نبدأ القصة الموعودة من نهايتها، من الشاعر «صمويل تايلور كولريدج» وأبيات مقتطفة تقول: «ماذا لو نمت/ وماذا أيضا عند نومك حلمت/ وماذا أيضا أثناء حلمك ذهبت إلى الجنة/ وهناك اقتطفت زهرة غريبة وجميلة/ وماذا إذا ما استيقظت، وجدت الزهرة فى يدك/ آه، وماذا بعد؟».

فيا ترى ما هى تلك الزهرة التى وجدها فى يده «جليفر» العصر، وعاد ليضعه تحت تصرف من يهمونه على الأرض، وتبدو كما لو كانت قطعة من أدب الرحلات، ولكنها فى حقيقتها تقدم العالم كله من خلال عين القادرين على النظر له؟ هى مملكة خاصة لا يزورها إسماعيل سراج الدين، وإنما هى المملكة التى يعيش فيها، وتتواجد فيها النخبة العالمية الطافية فوق العالم على ارتفاع ٣٥ ألف قدم متنقلة فوق قمم الجبال الشاهقة من «إيفرست» إلى «الهملايا»، من مؤتمر إلى آخر، من شرق الدنيا إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، وكما يقول كاتبنا ما بين ١٥٠ إلى ٢٠٠ يوم فى العام.

إنها قبيلة من نوع خاص، تتنقل بسهولة ما بين مؤتمرات من عينة «دافوس» الشهيرة عابرة الكرة الأرضية، وفيها من كل تخصصات المال والتكنولوجيا والصناعة والسياسة والإعلام والفن والثقافة وغيرها، التى ترحل كالبدو من مكان إلى آخر تنظر وتحلل وتنقل الرأى، وتتأمل فى أحوال الكوكب وسكانه.

الزهرة التى كانت فى يد كاتبنا هى نتاج نظرته من مملكته الطافية فوق العالم بين النخبة، ونظرتها إلى الممالك الستة الأخرى كما استقرت فى عينه. هو لم يذهب إلى بلاد بعيدة كما فعل جوناثان سويفت (١٧٢٦ـ ١٧٣٥)، فكان قزما فى بلاد العمالقة، وعملاقا فى بلاد الأقزام، فالعالم فى الأول والآخر لم تعد فيه أماكن بعيدة، أو متطرفة، فهو فى قبضة الجماعة الطافية فوقه تنظر على ما يطرأ عليه من متغيرات. وكان من الطبيعى أن تكون «مملكة راعى البقر» هى أولى الممالك التى ينقلها لنا راعى المكتبة الكبرى التى بعثت من قلب التاريخ. لم يكن ممكنا لخريج «هارفارد» أن يكون له بداية أخرى لأن نظرته إلى «راعى البقر» لم تكن تلك النظرة المعروفة فى بلاده التى تجعل من الوصف تعبيرا عن سلبية شرسة وقبيحة على الأغلب لأنها مفعمة بالعنف، ومعاداة الهنود الحمر، واستسهال إطلاق الرصاص طوال الوقت.

راعى البقر هنا لدى صاحبنا فى الأصل لوحة مثالية «لمدينة مضيئة على التل»، فرديته فواحة بالإبداع والابتكار، والقدرة على المبادرة وجعل ما هو مثالى واقعيا. ولكن لا المدينة بقيت على حالها، ولا بقى راعى البقر على حاله، فانقسمت المدينة بين أهلها، وعمت الفوضى حتى جاء راعى بقر آخر، منقذا هذه المرة، لكى يعيد الأيام الطيبة سيرتها الأولى، أو هكذا يظن من يبدو كما لو كان دونالد ترامب لكى يحكى لنا قصة شاهدناها فى كثير من أفلام رعاة البقر.

على هذه الشاكلة يتجول إسماعيل سراج الدين بين الممالك، يبدأ بالمملكة الخيالية، ثم نجد أنفسنا فى داخل دولة فى العالم الحقيقى الذى نعرفه. هنا فإن «مملكة لاعب الشطرنج» تظهر من خلال ذلك الاتساع الكبير لمجال واسع، يحكمه دائما أباطرة وقياصرة وطغاة. ولكن الشخصية الآسرة لصاحبنا تكون لذلك الحاكم الذى يرفض تراجع الإمبراطورية السوفيتية ليس فقط فى المساحة، وإنما السمعة والمكانة.

إنه فلاديمير بوتين الذى يرى العالم، كما لو كان رقعة شطرنج يتحرك فيها بالجنود حسبما يجد ضعفا أو فرصة سانحة، هو يكسب طوال الوقت تكتيكيا لعلها تعطى فى النهاية نصرا استراتيجيا. هو لا يحتاج أرضا جديدة، ولكنه يريد أرضا جديدة. مملكة «المد العالى والواسع»، أو ما سنعرفه بعد قليل تعبر عن الصين، تعيش حالة ازدهار اقتصادى غير مسبوق. الرحالة يعرف كيف كان الحال من قبل فى زمن «ماو» بملابسه المتواضعة، وكيف أصبح الآن عندما باتت الصين أكثر دول العالم المولدة للمليارديرات، وكيف انتهى الشغف بالقديم إلى الولع بالجديد، والعزلة خلف السور العظيم، إلى احتضان العالم كله. مملكة «وادى السلام والرخاء» هى أوروبا وليس غيرها، وشعوبها وأقطارها هى الأغنى فى العالم، وهى التى اجتاحت الدنيا بالتنوير والاستعمار وغيرت من تقاليد حتى بات العالم ليس كما كان.

«عالم النار والجمر» هو مملكة إسماعيل سراج الدين الأصلية الذى نبتت فيه الديانات السماوية الثلاث، وبات فيها الإسلام حجر الزاوية فى الثقافة العربية. هنا فإن الناس يؤمنون بالشهادة، والخصوصية المسمومة للجماعة المختارة. فيها تحول الربيع العربى إلى شتاء إسلاموى، وفى الإجمال «فإن كل ذلك كان أسوأ من أكثر أفلام الرعب سوءا، لأنها كانت الحقيقة»!.

ما كان مولد الحضارة الإنسانية أصبح عالم النار والجمر، جحيما حقيقيا على الأرض، وفوضى ودمارا ليس له نهاية. هو باختصار النقيض الموضوعى لمملكة «أرض الناجين» الذين خرجوا من جب التخلف لكى يجسروا الفجوة بين ما كان معروفا بهوة «الغرب والبقية» لكى يكون لهم مكانتهم ونصيبهم من الغنى والمكانة. من مكانه فى البنك كانت عين إسماعيل سراج الدين ترقب ذلك الصعود المدوى لجماعة من الدول بدأت من كوريا وتايوان وسنغافورة ثم لحقها آخرون، بينما استمرت جماعة أخرى فى النضال الصعب خاصة فى أفريقيا.

والتفاصيل فى هذا الأمر كثيرة، ولكن عين صاحبنا لماحة وقادرة، خاصة وهى ليست خاضعة لمملكة بعينها، وإنما تعرف المملكة الأخرى التى ينتمى لها تلك القبيلة الصغيرة من العلماء والمثقفين والفلاسفة التى تطير بين أركان المعمورة تستكشف وتكشف أسرار ممالك كبيرة وصغيرة. رجلنا شريك أساسى فى القبيلة، وها هو يحكى لنا قصته فى ممالك عرفها ونقل لنا بحساسية أدبية فائقة ما ظنه فيها، وربما سوف نجدها بعضا من دراسة أو مطلعا فى كتاب.