سوريا .. من انتصر على من في معركة النفوذ الدولي؟

قبل سبع سنوات، وفي غمرة الربيع العربي الذي اجتاح عدداً من بلدان المنطقة، خرج السوريون للمطالبة برحيل بشار الأسد عن الحكم، معتقدين أن الأمر غايته الاعتصام في الشوارع أسبوعين أو ثلاثة، لكنهم اكتشفوا متأخرين أن الأمر كان أكبر من ذلك بنظر أطراف أخرى دخلت على خط الأزمة منذ لحظتها الأولى.


فكما أثار رحيل زين العابدين بن علي رغبات المصريين فقرروا الخروج على حسني مبارك، أثار رحيل الأخير أيضاً رغبات السوريين فخرجوا على الأسد، ليجدوا أنفسهم في مواجهة حسابات دولية وموازين قوى، فضلاً عن الطائرات والصواريخ والبراميل المتفجرة وجماعات قطع الرقاب التي منحت الأسد مبرراً لسحق شعبه.

واليوم يجد من ثاروا على الأسد أنفسهم إما لاجئين أو مهجّرين أو محاصرين، في حين يجد الأسد نفسه في وضع أفضل ممَّا كان عليه وقت اندلاع الثورة عام 2011، وأفضل بمراحل مَّما كان عليه قبل ظهور تنظيم الدولة ودخول الروس والإيرانيين صراحة إلى الأزمة عام 2014.

ويعتقد كثيرون أن ما آلت إليه الثورة السورية من تراجع، إنما يرجع لتخلّي الولايات المتحدة منذ البداية عن فكرة الإطاحة بالأسد، وأيضاً لاستخدام الروس والإيرانيين العنف المفرط والأسلحة المحظورة في المعارك، في حين ظلّت المعارضة رهينة ما يسمح به المجتمع الدولي من دعم لا يكفي لحسم المعركة.

كان الثوار في أول الأمر مندفعين نحو تحقيق النصر، وواثقين من بلوغه، وقد اعتمدوا في ذلك على دعم غربي وأمريكي ظنوا أنه آت لا محالة، لكنه لم يأت حتى اللحظة، لأسباب تتعلق في مجملها بمصالح الدول المتداخلة في سوريا.

 تخلّي واشنطن
السفير الأمريكي السابق روبرت فورد يرى أن ما وصلت إليه الأوضاع في سوريا إنما يعود بالأساس لتخلي القوى الغربية والإقليمية عن المعارضة، في حين وقف حلفاء الأسد خلفه بمنتهى القوة.

فورد، الذي كان آخر سفير للولايات المتحدة في دمشق، قال في يونيو 2017، إن الإدارة الأمريكية خدعت السوريين عندما جعلتهم يعتقدون أنها ستدعمهم، ثم ما لبثت أن تراجعت عن تقديم هذا الدعم وتركتهم في مواجهة البراميل المتفجرة.

ولاحقاً قال فورد لصحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، إن الرئيس دونالد ترامب "يريد تقليص النفوذ الإيراني (في سوريا)"، مضيفاً: "الرئيس لا يعرف أن اللعبة انتهت. تأخروا كثيراً. أوباما لم يترك لإدارة خلفه الكثير من الخيارات لتحقيق هدفه".

ومنذ البداية اعتمدت إدارة باراك أوباما نهجاً غائماً إزاء الثورة السورية؛ فلا هي دعمت المعارضة بشكل كامل يمكنها من الإطاحة بالأسد، ولا هي سمحت لدول أخرى بتقديم هذا الدعم، كما أنها أيضاً استخدمت الأسد كورقة في حربها الباردة مع إيران.

وهدد أوباما الأسد بأن استخدام الأسلحة الكيماوية "خط أحمر" لن يقبل بتجاوزه، وعندما تجاوز الأسد هذا الخط عام 2013، قبل أوباما أن يسلّم النظام السوري مخزونه الكيماوي مقابل التراجع عن ضربة عسكرية كانت على وشك التنفيذ، وربما قلبت هذه الضربة الموازين لو حدثت.

هذا التراجع الأمريكي عن ضرب الأسد في لحظة كانت صعبة فعلاً من عمره، يؤكد أن التعامل الأمريكي مع سوريا كان براغماتياً من الأساس، بحسب محللين، كما لم توقف التفاهمات الكبيرة بين واشنطن وموسكو وطهران، سقوط أرواح عشرات الآلاف من السوريين.

اكتفت إدارة أوباما بتقليم أظافر حليف إيران وروسيا قليلاً، وأبقت على سياسة أوباما التي كانت قائمة على سحب بلاده من مستنقع الشرق الأوسط، وتركه للروس والإيرانيين يفعلون به ما يشاؤون، وعندما جاء دونالد ترامب للحكم مطلع 2017، لم يكن أمامه الكثير من الخيارات.

خيارات محدودة
بدأ ترامب ولايته حامياً، فقصف قاعدة الشعيرات السورية في أبريل 2017، رداً على استهداف النظام السوري لخان شيخون بالكيماوي، وقال آنذاك إن أوباما أخطأ عندما أعلن أن استخدام الكيماوي خط أحمر، ثم غض النظر عن تجاوز الأسد لهذا الخط. لكنه لاحقاً لم يفعل شيئاً سوى السعي لتحقيق أكبر مكسب تسمح به الظروف.

ولا يمكن تجاهل حقيقة أن ظهور تنظيم الدولة عام 2014 كان "قبلة الحياة" التي مُنحت لنظام الأسد؛ الذي كان قد خسر قرابة الـ70% من الأراضي السورية في ذلك الوقت. فقد منح التنظيم الأسد وحلفاءه فرصة ضرب الجميع بلا خوف من عقاب تحت حجة محاربة التنظيم، كما أنه منحهم فرصة مساومة أطراف رئيسية في اللعبة على رأسها تركيا والولايات المتحدة.

وخلال السنوات التالية، وبينما تقود الولايات المتحدة حرباً على التنظيم في سوريا والعراق، سعى الأسد ومن خلفه الإيرانيون لتحقيق تقدم كبير على الأرض تحت غطاء محاربة هذا التنظيم حتى بات النظام في أفضل حالاته على الإطلاق؛ خاصة أنه بات يستخدم القوة المفرطة دون أدنى محاسبة، حتى تمكن من السيطرة على غالبية مناطق المعارضة.

وخلال المعركة مع التنظيم حشدت الولايات المتحدة قوة كردية على الحدود السورية التركية، ودرّبتها وسلّحتها، لتكون لاحقاً ورقة ضغط كبيرة على الأتراك الذين لن يقبلوا بدولة كردية على حدودهم مهما كان الثمن.

وبعد هزيمة التنظيم تقريباً أصدر الرئيسان الأمريكي والروسي، في نوفمبر 2017، بياناً مشتركاً من مدينة دانانغ الفيتنامية، أعربا فيه عن رغبتهما في استمرار المساعي الرامية لحل الأزمة بشكل سياسي بما يضمن عدم عودة التنظيم للظهور.

أندرو جيه تابلر، الباحث في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني، يرى أن المسائل الاستراتيجية تحجب آفاق التسوية الدبلوماسية المستدامة في سوريا؛ لافتاً إلى أن 80% من القوى التي تقاتل فعلياً تنظيم الدولة في شرقي سوريا، مدعومة من الحرس الثوري الإيراني.

وثيقة إنقاذ الأسد
ويجزم تابلر بأن اتفاقية "تخفيف حدة التصعيد" الموقعة بين موسكو وواشنطن وعمّان في يوليو 2017، وليس المساعي الأمريكية والروسية لفض النزاع، هي التي فتحت الباب أمام الأسد وإيران، وليس أمام المعارضة المعتدلة، لقيادة المعركة ضد "داعش". وتنص هذه الوثيقة على تقليل عدد المقاتلين الأجانب الموجودين في سوريا لحين جلائهم تماماً.

ويضيف تابلر في تحليل نشره أواخر العام الماضي، أن تراجع الدعم العسكري الأمريكي للثوار نتيجةً لتلك الاتفاقية خلّص نظام الأسد من أحد التهديدات المحدقة به. فالجنوب السوري تحديداً هو الطريق الاعتيادي للاجتياح نحو دمشق، وهو نقطة ضعف لدى الأسد ولا سيما أن الثورة قد انطلقت منه.

في المقابل، أتيح لجحافل الأسد المدعومة من إيران أن تنتشر على مساحة غير مسبوقة من الأراضي السورية، وهي مساحة تنوي طهران تحويلها إلى "جسرٍ بري" بهدف توسيع جسرها الجوي نحو مطار دمشق، كما يقول الباحث.

ويتابع تابلر: "بالنظر إلى الضعف الشديد الذي أصاب قوات الأسد خلال الحرب فإن بقاء الأخير في السلطة سيعني وجوداً كثيفاً لإيران في المستقبل المنظور. والأبرز في هذا السياق هو أن البيان الأخير يصف قرار مجلس الأمن رقم 2254 بالسبيل إلى السلام، ولكن هذا القرار يفتح أمام الأسد عدة طرقٍ للبقاء في الحكم، وهذه حصيلة لا يجدر بواشنطن قبولها".

ورغم موقف واشنطن الثابت من وثيقة جنيف 2012، القائمة على رحيل الأسد، فإن تلك الوثيقة (وثيقة خفض التصعيد) تفتح المجال ضمنياً أمام الأسد للبقاء في السلطة، حيث نصّت في جزئها الثاني على أن إحدى "الخطوات الرئيسية" "لأي تسوية" للأزمة تتمثل بتشكيل "هيئة حكم انتقالية" تمارس "كامل السلطات التنفيذية" وتهيّئ "بيئة محايدة تتحرك في ظلها العملية الانتقالية".

ويمكن أن تضم هيئة الحكم أعضاءً من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى، ويجب أن تُشكّل على أساس الموافقة المتبادلة. وقد شجّع هذا الغموض روسيا على إتاحة إشراك الأسد في هيئة الحكم الانتقالية مع الحفاظ على التزامها بالبيان، فيما شجّع الولايات المتحدة على التصدي لذلك.

ومع ذلك، فإن التطور الأخير الذي أحدثه قصف النظام لمدينة دوما في غوطة دمشق الشرقية بالغازات السامة، قد يستحدث متغيرات جديدة، لا سيما أن التهديد الأمريكي بالرد يبدو جدياً إلى حد كبير، كما أنه يتزامن مع ما يبدو أنه توافقات أمريكية سعودية بشأن سوريا.

الرئيس الأمريكي الذي وافق بصعوبة على إبقاء قواته في سوريا لنحو عام مقبل، قال الثلاثاء (10 أبريل 2018) إنه سيتخذ (في وقت لاحق اليوم) قراراً نهائياً بشأن استخدام الأسد للكيماوي في دوما.

 تراجع إقليمي
وإقليمياً، لا يمكن إنكار أن الدعم الإقليمي الكبير الذي حظي به المعارضون في سوريا أول الأزمة قد تراجع إلى كبير خلال العام الأخير، بعدما بدأت دول إقليمية مهمة البحث عن مصالحها التي باتت تتعارض بقوة مع استمرار دعم معارضي الأسد.

فقد دخلت تركيا عملية عسكرية ضد المسلحين الأكراد الذين أوجدهم قتال تنظيم الدولة على حدودها، بدعم غربي، وهذه العملية قد تتحول لسلسلة عمليات، خاصة أن الرئيس رجب طيب أردوغان أكد مؤخراً أن قواته ستلاحق الأكراد في منبج وتل أبيض وعين العرب وقامشلي، في الأراضي السورية.

ويبدو أن هذه المدن التي تحدث عنها أردوغان ستكون المقابل الذي ستحظى به أنقرة مقابل تخليها عن فكرة رحيل الأسد. وإن كانت تركيا لم تصرح بهذا رسمياً فإن تقاربها الكبير مع روسيا مؤخراً ربما يعزز وجود بعض التفاهمات.

وفي السعودية، فإن حديث ولي العهد محمد بن سلمان، الأخير، عن رغبة بلاده في وجود نظام قوي للأسد في سوريا، بحيث لا يكون مجرد ذراع لإيران بالمنطقة، يعكس تغيراً جذرياً في موقف المملكة من الأسد. وتبدو الرياض في هذا الموقف الجديد مدفوعة بالرغبة في وقف نزيفها المستمر على يد الحوثيين في اليمن.

وإجمالاً، فإن الوضع النهائي للأزمة السورية يكاد يقترب من المحاصصة بين الأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة، وسواء كانت هذه المحاصصة نتيجة توافقات قديمة جديدة، أو بسبب تراجع أمريكي وتقحّم روسي، فإن كل طرف من الأطراف سيحظى بجزء من المكاسب في حين حظيت سوريا بالخسائر كلها.