الابتزاز وشراء المواقف السياسية .. صورة الاستعمار العصرية

الابتزاز وشراء المواقف السياسية .. صورة الاستعمار العصرية
الابتزاز وشراء المواقف السياسية .. صورة الاستعمار العصرية

على قدر كبير من الصراحة والوضوح، ظهر ابتزاز الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، للدول فقيرة الدخل ومتوسطة الدخل، بعد أن هدّد بقطع المعونات والمساعدات المالية عن الدول المُصوّتة لصالح مشروع قرار يرفض تغيير واقع مدينة القدس المحتلّة.


وبينما لم تأبه 128 دولة (في الأمم المتحدة) لتهديدات ترامب، صوّتت 9 دول (بينها إسرائيل وأمريكا) ضد القرار الذي قدّمته تركيا واليمن بشأن القدس، في حين امتنعت 35 دولة أخرى عن التصويت؛ بينها البوسنة والهرسك وجنوب السودان.

وفي البحث عن الأسباب التي دفعت الدول السبع (غواتيمالا، وهندوراس، وتوغو، وبالاو، وجزر ناورو، وجزر ميكرونيزيا، وجزر مارشال) لدعم ترامب في الأمم المتحدة، وجدنا أن معظمها دول فقيرة وغير معروفة، وتعتمد بالأساس على الدعم الأمريكي.

- تهديد ترامب والدول الصغيرة
فمثلا؛ هندوراس الدولة الصغيرة الفقيرة الموجودة في أمريكا الوسطى، ينخفض فيها معدل دخل السكان البالغ عددهم 8 ملايين نسمة، ربعهم عاطلون عن العمل، وهي معروفة بعلاقاتها التاريخية والاقتصادية والعسكرية مع واشنطن.

وحسب تقارير عسكرية واقتصادية، فإن هندوراس تضم على أراضيها قواعد أمريكية، وقد تلّقت عام 2016 نحو 127.5 مليون دولار أمريكي من واشنطن. وحسب تصنيف البنك الدولي، فإنها تُصنّف ضمن الدول المتوسطة أو المنخفضة الدخل.

أما غواتيمالا، ذات الـ 16 مليون نسمة، فتقع في منطقة أمريكا الوسطى، وهي دولة فقيرة حسب معطيات البنك الدولي، إذ يعيش أكثر من نصف سكانها في فقر، وقد حصلت مؤخراً على نحو 297 مليون دولار من المساعدات الأمريكية.

باقي الدول أيضاً، رغم تطوّر اقتصاد بعضها فإنها تعتمد أساساً على الدعم الأمريكي بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ فدولة بالاو (459 كم مربع/20 ألف نسمة)، ورغم اقتصادها المتطوّر نسبياً، فإنها أيضاً ترتكز على أمريكا اقتصادياً.

هذه الدول لا تحظى بوزن دولي كبير، بل إن من بينها دولاً هشة تعيش على المساعدات الأمريكية وغيرها، ومواقفها لا تمثّل أمام التوجهات العالمية الواضحة أي تأثير أو قيمة، لكنّها تحاول أن تحافظ على الدعم كمصدر للدخل.

وأمريكا التي توزع دعمها على نصف دول العالم الفقيرة والمتوسطة الدخل، تشتري بذلك قرارها السياسي وتتحكّم بأنظمتها الحاكمة، كما حدث في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بشأن القدس، على سبيل المثال لا الحصر.

وما أثار استغراب العالم امتناع جنوب السودان، البلد العربي حديث الولادة، عن التصويت؛ إذ إنه وقف على الحياد، في وقت اعتبر فيه مراقبون عرب أن الحياد في مثل هذه المواقف يعني تأييد الجانب السلبي بطريقة غير مباشرة.

لكن الاستغراب قد يتبدد بمجرد العودة إلى الوراء لسنوات قليلة، إذ إن إسرائيل، "الابن المدلل لأمريكا"، اعترفت بجنوب السودان بعد يوم واحد من إعلان انفصالها عن السودان سنة 2011.

وامتناع جنوب السودان عن التصويت يمكن وضعه في زاوية رغبتها في إقامة علاقات دبلوماسية قوية مع تل أبيب، ينتج عنها تعاون اقتصادي، وهو ما تم في الأشهر اللاحقة.

- السعودية وابتزاز لبنان على حساب "حزب الله"
في فبراير 2016، قرّرت المملكة العربية السعودية إيقاف مساعداتها المقرّرة لتسليح الجيش اللبناني، البالغة 3 مليارات دولار أمريكي، إلى جانب إيقاف ما تبقّى من مساعدة المملكة المقرّرة بمليار آخر، مخصّصة لقوى الأمن الداخلي.

هذا القرار، الذي ابتزّت فيه السعودية لبنان، أرجعته الأولى إلى "مواقف حزب الله ضد الرياض، وما تمارسه مليشياتها من إرهاب بحق الأمة العربية"، وهو ما أيّدته أبوظبي حليفة الرياض.

وعقب ذلك، طالب مندوب السعودية لدى الأمم المتحدة، عبد الله المعلمي، لبنان بإدارة شؤونه بنفسه بعيداً عمّا سماه "ابتزاز حزب الله"، وذلك كشرط أساسي لمراجعة علاقته بالمملكة، مؤكداً "عدم التسامح مع سلوكيات الحزب داخل لبنان وخارجه".

وحول نية المملكة الرجوع عن قرارها الرامي إلى إيقاف المساعدات، قال المعلمي: "إن الأمر يتوقف على ما إذا كانت الحكومة اللبنانية قادرة على إدارة شؤونها بمنأى عن الابتزاز الذي يمارسه حزب الله على المؤسسات والحكومة اللبنانية".

المعلمي استطرد: "إذا ما حدث هذا الأمر يمكن حينها أن نعيد النظر بالقرار، لأن لبنان بلد مهمّ بالنسبة لنا، ولدينا كل النوايا الحسنة تجاهه، لكن لن نتسامح مع سلوكيات حزب الله".

ووفق تقرير دولي، فإن حجم المساعدات التي قدمتها السعودية للبنان، خلال الفترة الواقعة بين عامي 1990 و2015، تناهز الـ 70 مليار دولار، بشكل مباشر أو غير مباشر، جاءت بين استثمارات ومساعدات ومنح وهبات، وقروض ميسّرة وودائع في البنوك والمصارف.

وحسب التقرير الذي يستند إلى مراجع علمية موثّقة، حوّلت المملكة وديعة مالية بقيمة مليار دولار خلال حرب لبنان (مع إسرئيل) 2006، مشيراً إلى أن 10% منها هي مملوكة لمستثمرين سعوديين".

ويشير إلى أن الاستثمارات السعودية في لبنان، بين عامي 2004 و2015، تبلغ نحو 6 مليارات دولار، فضلاً عن أن الصادرات السعودية إلى لبنان عام 2014 بلغت 415.4 مليون دولار.

كل هذه الأرقام يمكن اعتبارها مقدّمة للتدخّل السعودي في القرار السياسي اللبناني، وهو ما ظهر جلياً عند إعلان رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، استقالته من الرياض بشكل مفاجئ، ما أشعل أزمة بين البلدين.

واختفى الحريري عن الظهور الإعلامي، الأمر الذي دفع وسائل إعلام إلى القول إنه "قيد الإقامة الجبرية"، لكن ذلك تبدّد فور دخول فرنسا على الخط، ودعوة الحريري إلى زيارة باريس.

- السعودية تحت مقصلة أمريكا
يبدو أن أيام المملكة السعودية المقبلة ستكون صعبة للغاية مالياً ونفسياً واقتصادياً، في ظل الهجمة القانونية التي أطلقها تشريع أقره الكونغرس بمجلسيه يرفع الحصانة التي تمتعت بها لأكثر من 70 عاماً، ويسمح بمقاضاتها أمام المحاكم الأمريكية من قبل ضحايا العمليات الإرهابية، أو ما يعرف بقانون "جاستا".

ففي أبريل الماضي، كشفت وكالة "رويترز" أن أكثر من 12 شركة تأمين أمريكية مرتبطة بشركة "ترافيلرز كوز"، رفعت دعوى قضائية تطالب شركات ومؤسسات سعودية تتهمها بالوقوف خلف هجمات 11 سبتمبر، بدفع تعويضات تصل إلى 4.2 مليارات دولار.

القائمة شملت 10 كيانات اقتصادية؛ من بينها "مصرف الراجحي"، و"البنك الأهلي التجاري"، وشركتا "دولة أفكو"، و"محمد بن لادن"، و"رابطة العالم الإسلامي"، وجمعيات خيرية أخرى.

وتضمّنت الدعوى القضائية اتهام الكيانات "بالمساعدة والتحريض" على الهجمات من خلال أنشطة تدعم تنظيم "القاعدة" في السنوات التي سبقت تنفيذ هذه الهجمات، أي بأثر رجعي.

ومطلع العام، تقدّمت شركة محاماة أمريكية بدعوى نيابة عن 700 شخص من أهالي ضحايا الهجمات المذكورة، أمام محكمة في منهاتن ضد الحكومة السعودية، لتقديم أمراء ومسؤولين فيها مساعدات مالية ولوجستية لمنفّذي الهجمات.

وحسب تقارير أجنبية، فإن مجموع التعويضات المالية يصل إلى نحو 4000 مليار دولار أمريكي (4 تريليونات)، ما يعني أن السعودية قد تتعرّض للاستدانة وبيع أصول شركاتها الكبرى؛ مثل أرامكو، وسابك، ورهن احتياجاتها النفطية لعقود لتسديد هذه المبالغ.

وقد صُنّفت هذه العملية كابتزاز تستفيد منه أمريكا، التي استخدمت القوة العسكرية بتأييد دول الخليج العربي، من بينها السعودية، لتغيير الأنظمة في ليبيا والعراق وسوريا واليمن.

- مصر والمعونة الأمريكية
وليس بعيداً عن هذه الدول، عادت الولايات المتحدة الأمريكية للتهديد بقطع مساعداتها عن مصر، التي وقفت في مقدمة الدول الداعية لاستصدار القرار الدولي الأممي بشأن القدس، لكن هذا التهديد ليس بداية الابتزاز، بل إنه امتداد لتاريخ طويل فيما يتعلق بمسألة المعونة الاقتصادية السنوية.

فعلى الرغم من اعتقاد كثيرين أن تلك المعونات بدأت بمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل (كامب ديفيد 1978) التي عقدها الرئيس الراحل، أنور السادات، برعاية أمريكية، وفي العام 1979، وبعد توقيع "كامب ديفيد" مع "تل أبيب"، تحوّلت المعونات الأمريكية بشقيها العسكري والاقتصادي إلى نوع من الضمانات الأمريكية للاتفاق بين القاهرة و"تل أبيب"، وأعلن الرئيس الأمريكي، جيمي كارتر، تقديم معونة اقتصادية وأخرى عسكرية سنوية لكل من البلدين.

وتحوّلت منذ عام 1982 إلى منح لا تردّ؛ بواقع 3 مليارات دولار لـ "إسرائيل"، و2.1 مليار دولار لمصر، منها 815 مليون دولار معونة اقتصادية، و1.3 مليار دولار معونة عسكرية، لتمثل المعونات الأمريكية لمصر 57% من إجمالي ما تحصل عليه من معونات ومنح دولية.

وبعد ثورة يناير، تجدد التهديد الأمريكي، مع إثارة قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني، وتوجيه الاتهامات لحقوقيين، بينهم أمريكيون، بالإضرار بالأمن القومي المصري، وبدأت سلسلة من التخفيضات في قيمتها، بعهد الرئيس السابق، باراك أوباما.

ثم واصلت إدارة الرئيس الحالي، دونالد ترامب، قرارات المعونة، وقررت تخفيض المعونة لمصر بواقع 95.7 مليون دولار كمساعدات، وأجّلت 195 مليون دولار، بدعوى عدم إحراز تقدم في مجال احترام حقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية.

ويمكن وضع الدعم الأمريكي لمصر في زاوية تحقيق مصالح واشنطن في الشرق الأوسط، وتحديداً فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والدور الذي قد تؤدّيه القاهرة، صاحبة الثقل المعروف تاريخياً في المنطقة.

وذلك ينطوي أيضاً على ما يسمّى بـ "صفقة القرن" التي ذاع صيتها مؤخراً، إذ يرى البعض أنها ترتبط بالدعم العسكري الأمريكي غير المسبوق لمصر، عبر ربط بين تنازلات "مصرية - عربية" لحل القضية الفلسطينية الأكثر تعقيداً، منذ القرن الماضي.

- مفاوضات فلسطينية - إسرائيلية ومال مشروط
في ظل غياب الدعم العربي، تضطر السلطة الفلسطينية للذهاب إلى حضن المساعدات الأمريكية، نظراً لحاجتها الشديدة، وهو ما تستغلّه واشنطن لفرض شروطها على الرئيس محمود عباس، خاصة في المواقف المتعلقة بالمفاوضات مع إسرائيل.

فلا تزال المساعدات الأمريكية عقبة كبيرة في وجه السلطة الفلسطينية، لا تستطيع التخلّص منها في ظل الحاجة إليها بعد غياب البديل العربي القوي غير المشروط عن موازنة السلطة.

إذ أبدت أمريكا تحفّظاً على مواقف السلطة وما تسمّيه بـ "التحريض" الّذي تمارسه تجاه الاحتلال الإسرائيلي، عقب انسداد الأفق السياسي، بسبب توقّف المفاوضات، منتصف أبريل 2014، وانضمام السلطة إلى مؤسّسات دوليّة عدّة.

وتضخّ أمريكا في صندوق السلطة سنوياً 370 مليون دولار، بدأت تُقدّم بعد اجتماع الدول المانحة بواشنطن، في أعقاب توقيع اتفاق "أوسلو"، منتصف سبتمبر 1993، (برعاية أمريكية).

لكن بعد توقف المفاوضات، قلّصت الولايات المتّحدة، في سبتمبر 2015، المساعدة الماليّة الّتي تقدّمها إلى السلطة بنحو 80 مليون دولار، وذلك بعد إقرار إدارة الرئيس دونالد ترامب، خفض المساعدة الماليّة لتصل إلى 290 مليون دولار فقط.

ويبلغ حجم المبلغ الذي تضعه أمريكا في خزينة السلطة الفلسطينية سنوياً 50 مليون دولار؛ يُخصّص جلّه لصالح تطوير الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة، والتي يصل عدد منتسبيها إلى 66 ألفاً.

وقبيل إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، صادق مجلس النواب الأمريكي على مشروع قانون لتخفيض المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة للسلطة، بحجة أن الأخيرة تعطيها لعائلات الشهداء والأسرى في المعتقلات الإسرائيلية.

وقال رئيس مجلس النواب الأمريكي، بول ريان، في تصريحات: "إن أمريكا ستوقف على الفور جميع الأموال المخصصة للسلطة الفلسطينية بالضفة الغربية وغزة، إلى حين التوقف عن دفع رواتب أسر الإرهابيين والقتلة"، على حد تعبيره.

وكما أمريكا، فإن إسرائيل تستخدم المستحقات المالية وتحويلها لصالح الخزينة الفلسطينية وسيلة لابتزاز السلطة سياسياً، وتُخضع الضرائب المستحقة للفلسطينيين إلى المزاج الإسرائيلي وحكوماته.

الابتزاز الإسرائيلي جاء على شكل قررت فيه الحكومة الإسرائيلية دفع أموال الضرائب لحكومة رام الله مؤخراً، على أن يتعهد الرئيس الفلسطيني بتهدئة الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية، بعد استشهاد الأسير عرفات جردات (فبراير 2013).

حينها ذكرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية، أن مطالبة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لعباس، جاءت عبر رسالة أرسلها الأول، ذكر فيها أنه "قرر الإفراج عن أموال الضرائب التي يحتجزها الاحتلال عن شهر يناير دون تأخير".