بقلم زياد بهاء الدين: عن أزمة القضاء .. وجهة نظر مختلفة

ينشغل الاعلام أحيانا بنقل التفاصيل الدقيقة للخلافات الجارية على الساحة دون تقديم معلومات كافية عنها للقارئ. والخلاف الحالى حاليا بشأن قوانين القضاء مثال جيد. ولهذا فاسمحوا لى بعرض الموضوع أولا فى حدود فهمى ومتابعتى قبل التعليق عليه. 


هناك عدة قوانين تنظم الهيئات القضائية فى مصر وعلى رأسها قانون النيابة الإدارية (رقم ١١٧ لسنة ١٩٥٨)، وهيئة قضايا الدولة (٧٥ لسنة ١٩٦٣)، والسلطة القضائية (٤٦ لسنة ١٩٧٢)، ومجلس الدولة (٤٧ لسنة ١٩٧٢). ووفقا للوضع الراهن فإن اختيار رؤساء ثلاثة من هذه الهيئات ــ محكمة النقض، ومجلس الدولة، وهيئة قضايا الدولة ــ يتم بقرار من رئيس الجمهورية بعد أخذ رأى الجمعية العمومية أو المجلس الأعلى لكل منها، أى بمشاركة قضاة الهيئة المعنية، وقد جرى العرف على أن يكون الترشيح وفقا للأقدمية. 

ولكن مجلس النواب أقر تعديلات على القوانين الأربعة المشار اليها تجعل اختيار رؤساء الهيئات القضائية بقرار من رئيس الجمهورية من بين ثلاثة أسماء تقدم إليه لكل منها. وقد انتفض المجتمع القضائى رافضا لهذا التعديل باعتباره يجعل الاختيار بيد رئيس الجمهورية بما يمس استقلال السلطة القضائية وفقا لنصوص الدستور، ومنها أن «السلطة القضائية مستقلة» (مادة ١٨٤)، و«تقوم كل جهة أو هيئة قضائية على شئونها» (١٨٥)، و«القضاة مستقلون غير قابلين للعزل، لا سلطان عليهم فى عملهم لغير القانون» (١٨٦). كذلك اعتبر القضاة أن صدور القانون دون التشاور معهم يخالف نص المادة (١٨٥) من الدستور والتى تلزم بضرورة أخذ رأى كل هيئة قضائية فى مشروعات القوانين المنظمة لشئونها.

هذا عن موضوع الخلاف. وأما فى مجال الرأى، فإننى اتفق مع ضرورة رفض تعديلات القوانين المشار إليها لأنها تنتقص من استقلال القضاء وهو أصل الضمانات الدستورية كلها. وفى غياب قضاء مستقل فلا قيمة لأى ضمان أو حق دستورى آخر لأن القضاء هو خط الدفاع الأخير عن كل الضمانات والحقوق وهو القادر على وقف اعتداء السلطة التنفيذية عليها. 

والتعديلات الأخيرة على أى حال مهددة بالبطلان بسبب عدم استشارة الهيئات القضائية المعنية قبل إصدارها. وأظن أن كثيرين غيرى قد تناولوا كل هذا بالتفصيل وبتعمق كاف. ولهذا فما يشغلنى هنا أن القضية لا ينبغى أن تتعلق بهذا التعديل القانونى وحده، بل باستقلال القضاء وعدالته بشكل عام، مما يتطلب أن ننظر للموضوع بشكل أكثر شمولا. 

من جهة أولى فإن على المدافعين عن موقف القضاة واستقلالهم أن يفرقوا بين الصواب والخطأ من أوجه التضامن معهم. الاعتراض على التعديل القانونى الأخير سببه أنه يخالف مبدأ استقلال القضاء ولعدم استشارة الهيئات القضائية، وهذا كاف. ولكن القول بأن مجلس النواب لا يملك صلاحية التشريع فيما يخص القضاء عموما فى غير محله لأن المادة (١٨٥) من الدستور ألزمت البرلمان بأخذ رأى القضاء فى القوانين المنظمة لشئونه، ولكنها لم تغل يده عن التشريع وفقا لمطلق إرادته طالما كان ذلك فى حدود الدستور. 

فالبرلمان فى النهاية يجب أن يظل صاحب السلطة التشريعية المطلقة فى مواجهة كل فئات المجتمع بما فيها القضاء والشرطة والجيش والحكومة والأزهر والكنيسة ورئيس الجمهورية. والمفهوم الحقيقى للدولة المدنية هو أن البرلمان يشرع للجميع والقضاء يراقب تطبيق القانون على الجميع. والحد من سلطان البرلمان فى التشريع بالنسبة للقضاء اليوم يمكن أن يمتد بهذه الطريقة مستقبلا إلى غيره. 

من جهة ثانية، يقلقنى أن يتخذ نادى القضاة موقفا ــ حسب المنشور فى الاعلام ــ بضرورة وقوف القضاة جميعا ضد هذه التعديلات ومحاسبة من يخرج عن الصف. هذا قيد على حرية التفكير والرأى ولا يجب أن يصدر عن مؤسسة تعمل على الدفاع عن الحريات. لكل قاضٍ حرية تكوين رأيه المستقل فى شئون مهنته ولو لم تتفق مع الغالبية. 

وأخيرا فإن قضيتنا لا ينبغى أن تقتصر على مجرد دعم القضاة فى معركتهم الحالية، بل التمسك بحق المجتمع فى قضاء عادل ومستقل ونزيه فى كل الأحوال. وهذا يحتاج من القضاء أن يكون بدوره منحازا انحيازا تاما ومطلقا للعدالة فى كل موقف وكل مناسبة، وأن يكشر عن أنيابه ويتخذ موقفا قاطعا ليس فقط مما ينتقص من أوضاع القضاء والقضاة وإنما من كل ما يمس سيادة القانون والعدالة فى المجتمع، وكل ما يمس حقوق المواطنين وحرياتهم. 

هذه ليست مقايضة، ولا شروطا للتضامن مع القضاة فى معركتهم للحفاظ على استقلالهم. فواجبنا فى كل الأحوال رفض القانون الذى أقره البرلمان لأن هذه مسألة مبدأ ومسألة احترام الدستور. ولكن على مجتمع القضاة واجب أخطر وأهم فى الانتصار للعدالة وحماية الحريات وصون الدستور فى هذه المعركة وفى غيرها. وهذا موقف لا يملك أحد أن يفرضه على المجتمع القضائى، بل يجب أن يتمسك به أبناؤه وشيوخه الحريصون على مستقبل البلد وعلى إعلاء صوت العدالة، وأملنا فيهم كبير.