بقلم عبد الله السناوي: اعتذار إلى أحمد عرابى

ـ اسمع يا وصفى.
ـ أفندم.
ـ عرابى باشا أشرف من عشرة خديويين مجتمعين، والبكباشى محمد عبيد أشرف من كل الخديويين والباشوات الخونة الذين باعونا للإنجليز».


كان ذلك الحوار المختصر نقطة التنوير فى رواية «بهاء طاهر» «واحة الغروب».

فى لحظة واحدة فاضت روحه بأزمتها المقيمة.

فهو رجل يعذبه ضميره ويثقل عليه تخاذله فى التحقيقات، التى أجريت بعد انكسار الثورة العرابية واحتلال مصر عام (١٨٨٢)، حين وصف قادتها بأنهم عصاة متمردون حتى يبقى فى وظيفته كضابط شرطة.

لم يعد يطيق الأكاذيب، التى راجت كأنها حقائق، ولم يعد يحتمل أن يشتم «عرابى» ورفاقه بأقذع الأوصاف دون أن يرد.

كان «وصفى» ضابطا شابا يعمل تحت إمرته، وينتمى إلى الذين تمكنوا من مقدرات البلد بعد هزيمته، والعطايا تغدق عليهم من إقطاعيات ورتب.

بروح الإبداع، التى تلامس المشاعر الإنسانية فى تمردها وضعفها، بدا مأمور الواحات «محمود عبدالظاهر» تعبيرا عن أزمة جيل انكسر تحت وطأة الهزيمة، بعد أن أطفئت كل الأنوار وخيم ظلام دامس على مصر المحتلة.

لم يكن خائنا لكنه استشعر الخيانة بداخله، ووصل عبء التاريخ إلى ذروته.

بعد سنوات طويلة رد اعتبار الثورة العرابية، التى تعرض زعيمها لحملات تشويه لم تلحق بزعيم آخر، فلم يكن هناك أحد بوسعه أن يرد ويتكلم ويقول الحقيقة.

نقد الثورات عمل مشروع لكن الافتراء على التاريخ قضية أخرى، كأننا نعود إلى حملات السباب، التى استخدمت لإهالة التراب على الثورة المصرية الأولى فى التاريخ الحديث وإعفاء الخونة من مسئولية احتلال مصر.

ليس مهما من قال ماذا ولا العبارات المتفلتة التى ترددت على إحدى شاشات الفضائيات.

القضية الحقيقية احترام التاريخ الوطنى بكل تضحياته ووقفاته، أيا كانت الأخطاء التى ارتكبت، فهناك ما يسمى «شرف القتال» و«نبل طلب التغيير».

لم تستكمل فى مصر «ثورة»، أجهضت «الثورة العرابية» بعد فترة وجيزة من انطلاقها، وضربت ثورتا (١٩١٩) و(١٩٥٢) بمنتصف الطريق، واختطفت ثورة «يناير» فى أولها ــ كما قال الأستاذ «محمد حسنين هيكل».

ذلك يستحق البحث والتأمل لمعرفة أسبابه وأين كانت نقاط الضعف التى سمحت بإجهاضها، أو اختطافها؟

الحقيقة بالوثائق غير التشويه بالأهواء.

من العيب أن يوصف «عرابى» ــ زعيم الوطنية المصرية فى إبان الثورة ــ بأنه «فأر» هرب من ميدان القتال.

لقد كان رجلا شجاعا وطيبا به نزعة صوفية، جيشه انكسر فى التل الكبير بالخيانة، والإسكندرية احتلت بتواطؤ من محافظها، وقوات الغزو البريطانى أخذت طريقها إلى القاهرة.

هرع إلى العاصمة للدفاع عنها، لكن كل شىء انتهى، والخونة أحكموا السيطرة عليها.

اعتقلوه وحاكموه وأهانوه قبل نفيه مع ستة من رفاقه لنحو عشرين عامًا فى جزيرة «سيلان»ــ «سريلانكا» الآن، اثنان منهما ماتا فى المنفى هما «محمود فهمى باشا» و«عبدالعال حلمى باشا» وقبراهما نالهما ــ بالزمن ــ إهمال جسيم.

بتعبير شخصية سريلانكية رفيعة نقله الكاتب الصحافى الأستاذ «محمد عودة» فى كتابه «سبعة باشوات»: «إن الزمن لا يحفل أحيانا بهيبة الذكريات».

وفق وثائق مؤكدة وشهادات متواترة لمفكرين ومؤرخين أجانب ومصريين ــ من بينهم الدكتور «حسين فوزى» صاحب موسوعة «سندباد مصرى» و«عبدالرحمن الرافعى» مؤلف «عصر إسماعيل» وموقفه سلبى من الثورة العرابية ــ فإن الاحتلال العسكرى كان تتويجا للاحتلال المالى ــ إذ إن التبذير فى أموال الخزانة العامة على عهد الخديوى «إسماعيل» أدى إلى استدانات من البيوت المالية العالمية والمرابين الأجانب والتدخل ــ بالتالى ــ فى شئون مصر ووضع الرقابة المالية عليها حتى انقلبت احتلالا عسكريا.

المعنى أن «عرابى» ورفاقه لم يتسببوا فى احتلال مصر بقدر ما حاولوا منع أن تحتل عسكريا بعد أن احتلت ماليا.
كما أنه من العيب الادعاء أن مظاهرة الجيش المصرى بقيادة «أحمد عرابى» أمام قصر عابدين لم تحدث!، وقد ألهمت تلك المواجهة المشاعر الوطنية على مدى عقود طويلة، كما أعمال أدبية أشهرها مسرحية «عرابى زعيم الفلاحين» لـ«عبدالرحمن الشرقاوى».

فى تلك المواجهة قال «عرابى» للخديوى «توفيق» من فوق صهوة جواده جملته التاريخية الشهيرة: «لقد خلقنا الله أحرارا، ولم يخلقنا تراثا أو عقارا، فوالله الذى لا إله إلا هو إننا سوف لا نورث ولا نستعبد بعد اليوم».

إذا لم تكن الواقعة قد حدثت فلماذا هرب الخديوى من القاهرة أولا؟ ولماذا استدعى قوات الاحتلال البريطانى ثانيا؟ ولماذا طلب من الباب العالى فى إستنبول إصدار فتوى بعصيان «عرابى»؟

ثم إن التسلسل المنطقى للأحداث يقول إن «عرابى» ورفيقيه «عبدالعال حلمى» و«على فهمى» اعتقلوا فى ثكنات قصر النيل بتعليمات من وزير الحربية «عثمان رفقى»، وأجريت محاكمة عسكرية عاجلة لهم، قبل أن يقتحم «محمد عبيد» المكان بقواته ويفرج عن قادة الثورة الذين حاصروا بعد ذلك قصر عابدين.

باليقين فإن ‫«‬محمد عبيد» هو أيقونة الثورة وبطلها الذى استشهد فوق مدفعه فى معركة التل الكبير، كما أن الضابط «يوسف خنفس» هو خائنها الأول، فقد دل قوات الاحتلال على أماكن تمركز الجيش المصرى، وخان كل معنى لرفقة السلاح، وأى اعتبار للانتماء الوطنى.‬‬‬

هل المقصود ــ دون دخول فى النوايا ــ رد اعتبار الخونة وإدانة الشهداء؟
فى الستينيات أصدر المفكر اليسارى «محمود الخفيف» أول كتاب مصرى ينصف الثورة وقائدها بعنوان «أحمد عرابى المفترى عليه»، دون أن يخطر بباله بعد عشرات السنين وتغير الأحوال والخرائط السياسية أنه سوف يفترى عليه من جديد.
مئات الوثائق والشهادات الإنجليزية والفرنسية والمصرية تؤكد ــ بالتفاصيل ــ ما جرى أمام قصر عابدين، من بينها تقارير القناصل الأجانب الذين شهدوا الواقعة وأبرقوا بتفاصيلها إلى حكوماتهم وما رواه السير «ويلفريد سكاون بلنت» صديق «عرابى» فى كتابه «التاريخ السرى لاحتلال إنجلترا مصر»، فضلا على نصوص التحقيقات التى أجريت مع قادة الثورة.

المثير فى القصة كلها أن مذكرات الخديوى «عباس حلمى الثانى»، نجل الخديوى «توفيق» وخليفته، تومئ إلى حيرته بين إدانة «عرابى»، الذى هدد حكم أسرة «محمد على»، وبين تساؤله عما إذا كان والده خائنا.

تراجيديا «عباس حلمى» ــ الذى ارتبط بصداقة عميقة مع الزعيم الوطنى الشاب «مصطفى كامل» ــ لم تكتب أبدا حتى الآن.

رغم ما أبداه «مصطفى كامل» من آراء سلبية فى «عرابى» فإنه امتداد حقيقى لإرثه الوطنى.

فى العام التالى للهزيمة (١٨٨٣) آل الحكم الفعلى لمصر إلى المندوب السامى البريطانى اللورد «كرومر».

كان هو نفسه سفاح قرية «دنشواى»، الذى أمر بجلد وشنق عدد كبير من فلاحيها، وأفضت جريمتها إلى إيقاظ الوطنية المصرية من جديد بزعامة «مصطفى كامل».

الثورات ليست أحداثا تجرى خارج سياق عصرها، ولا تجارب مجردة من مشاعر الذين شاركوا فيها.

وقد قدمت الثورة العرابية تراجيديات إنسانية لأبطال خرجوا من أحشاء المجتمع ومعاناته وأحلامه مثل «عبدالله النديم»، الذى كان جسرًا بين ثورة «أحمد عرابى» وزعامة «مصطفى كامل».

فى كتابه «أيام لها تاريخ» رسم الأستاذ «أحمد بهاء الدين» صورة لذلك «البطل الشعبى»، الذى حولته الثورة من «أدباتى» إلى «أديب» ومن «صعلوك» إلى «ملهم» للتظاهرات والمنتديات بأشعاره وشعاراته.

الثورة العرابية قدمت خطيبا بليغا هو «سعد زغلول»، الذى قدر له بعد سنوات طويلة أن يقود ثورة عظيمة أخرى عام (١٩١٩).

هكذا تواصلت الحركة الوطنية المصرية جيلا بعد آخر وثورة بعد أخرى.

الاعتذار لـ«أحمد عرابى» هو اعتذار لكل دماء سالت، وكل تضحية بذلت، وكل أمل لاح ذات يوم.