مقال بقلم د/ ياسر حسان: هل كانت حرب أكتوبر انتصارًا عسكريًا؟
خاص سياسي
هذا السؤال كان عنوان حلقة لبرنامج يقدم علي الفيسبوك اسمه "القصة وما فيها" تقدمه صحفية شابة ومجتهدة اسمها "ريهام عياد". هذا السؤال لا يتبادر لذهن أي مصري إذ إن مسألة نصر أكتوبر حقيقة لا جدال فيها بالنسبة لأي مصري.. لكن هذا السؤال يتم تداوله من حين لآخر بين كثير من المحللين السياسيين والعسكريين خارج مصر ..
وقد رأيت أن أدلي بدلوي في هذا الموضوع من منظور علمي بحت بعيدًا عن المسلمات التي أدخلها الإعلام الموجه إلى عقولنا على مدار عقود من الزمن.
في مصر نتعامل رسميًا وشعبيا مع أحداث عام ٥٢ على أنها ثورة، بينما تعرف أحداث ٥٢ في الغالبية العظمى من الأبحاث السياسية خارج مصر على أنه انقلاب، ولا ينفي عنه هذه الصفة قبول الشعب به، لأن الانقلاب قد يكون عسكريا أو مدنيا.. وحرب أكتوبر عمل مجيد لا يمكن التعامل معه كمًّا.
سأحلل الموضوع استنادًا إلى علم السياسية المقارن بحالة اليابان في الحرب العالمية الثانية.. منذ سنوات قرأت معلومة هامة أن قنبلتي هيروشيما ونجازاكي لم يكونا سبب استسلام اليابان في تلك الحرب، تمعنت كثيرا في هذا المعلومة وتوصلت لحقائق فارقة في معرفة كيف تقيم نتائج الحروب العسكرية؟.
إن تقييم نجاح أي حرب عسكرية تبنى على الموقف العسكري عند نهاية الحرب ثم على المكاسب السياسية من هذه الحرب.. وسأراجع النتائج العسكرية والسياسيةلحرب أكتوبر مع مراجعة حالة اليابان كما سبق أن ذكرت.
أولًا: الوضع العسكري وقت وقف إطلاق النار
خاضت مصر استنادًا إلى حقيقة أن أكبر طموح حرب أكتوبر هو العبور إلى الجانب الشرقي للقناة وعدم تجاوز خط المضايق لأنه سوف يجعل قواتنا خارج حدود المدفعية والطيران المصري، وأن الجانب السوري الذي لم يكن مستعدًا من الناحية العسكرية بنفس استعداد القوات المصرية، أجبر السادات على اتخاذ قرار الزحف خارج حدود مرمى المدفعية المصرية لتخفيف الضغط علي سوريا، ولو لم تتخذ مصر هذا القرار لربما كانت سوريا محتلة بالكامل الآن. دفعت مصر ثمن قرارها الأخلاقي بالدرجة الأولى بتكوين الثغرة التي يرى الجانب الإسرئيلي أنها جعلت الحرب متعادلةً، وهو أمر يخالف حقيقة ان وقت قرار وقف إطلاق النار كان خط بارليف قد دمر بالكامل والجزء الأكبر من قواتنا في شرق القناة وفي حماية الغطاء الجوي ومرمى الدفاعات الجوية المصرية.
الثغرة جعلت ثمن الانتصار أكبر على مصر لكنه لا ينفي الانتصار .. وحتى بمقياس الإسرائليين فإن التعادل بعد هزيمة هو اعتراف بانتصار المصريين.
ويحسب السادات تمسكه بعدم الانسحاب من شرق القناة وإلا لتغيرت الظروف السياسية كلها فيما بعد.
في الحرب العالمية الثانية رغم الدمار الكبير الذي خلفته قنبلتا هيروشيما ونجازاكي على اليابان، فإن اليابان استمرت في الحرب على الجانب الآخر من الشاطئ وهو الصين، بل وحققت بعض انتصارات وساهم في ذلك قرار قادة اليابان بإخفاء ما حدث في البلاد على جنودها في الشاطئ الآخر خوفا من انخفاض الروح المعنوية وجعلهم فريسة للصينيين، وساهمت أيضا عدم توافر وسائل التواصل والاتصال في هذا الزمن.. لكن قنبلة هيروشيما ونجازاكي حققت المكسب السياسي المطلوب منها كما سنرى فيما بعد.
ثانيًا: المكاسب السياسية
المكاسب السياسية هي النتائج الأهم لأي حرب في العصر الحديث.. في حرب أكتوبر استغل السادات النصر العسكري حتى وإن كان بثمن كبير كمكاسب سياسية كبيرة في مفاوضات السلام التالية. المحصلة النهائية هي عودة كامل التراب المصري، ولولا النجاح العسكري ما تحققت المكاسب السياسية، وذلك هو سبب احتفال مصر بحرب أكتوبر وعدم احتفال إسرائيل أو سوريا بها. في اليابان عندما تدخل السوفييت في الصين لدعم الشيوعيين رأى قادة اليابان أنهم لا يستطيعون مواجهة الأمريكان والسوفييت في معركة واحدة، ولهذا قرروا وقف الحرب والاستسلام، لكن كان هناك قرار سياسي آخر وهو (نستسلم لمن؟ للأمريكان أم السوفيت؟).
قرر قادة اليابان الاستسلام للأمريكان لتخوفهم من المد الشيوعي ولاعتقادهم أنهم سوف يكونون أكثر مرونة بعدم تغيير النظام الإمبراطوري لليابان، وهو ما تحقق بشكل كبير. اليابان الآن دولة ديموقراطية صناعية عظمى تمتلك ثالث أكبر اقتصاد عالميًا ورابع أقوى جيش في العالم، وتمتلك تكنولوجيا نووية متقدمة تجعلها تحتاج إلى أيام قليلة فقط لتمتلك قنبلتها النووية، وتقف الآن في المعسكر الغربي ضد تصاعد الصين عدوتها اللدود.
يقول الكثيرون إن القنبلتين أوقفتا الحرب لأن اليابان قررت الاستسلام لأمريكا، ولو كانت قررت الاستسلام للسوفييت لربما كانت اليابان الآن دولة شيوعية ولم يكن لقنبلتي هيروشيما ونجازاكي سوى التاريخ الأسود فقط دون أي مكسب سياسي يذكر للولايات المتحدة.
أكتوبر حرب مجيدة استفاد الجيش المصري منها خبرة مواجهة الموانع المائية -وهي خبرة لا تمتلكها في المنطقة سوى مصر وإسرائيل بطبيعة الحال ولا حتى الجيش الإيراني والتركي رغم حجم الإنفاق العسكري الكبير لديهما.
واستفزازات الدبلوماسية المصرية خبرات متراكمة للتفاوض السياسي والقانوني ساعد مصر في مفاوضات طابا لاحقًا .. ويظل نصر أكتوبر ومفاوضات السلام درسًا عسكريًا وسياسيًا رغم اعتراض بعض القوميين والناصريين اللذين لا يزالون يتمسكون بشعارات الماضي وهم يرون زحف الدول العربية للسلام مع إسرائيل، وهو المشهد الذي رأى السادات تفاصيله قبلهم بعقود وجنَّب مصر والمصريين عواقب لم تكن لتزول.