مع صعود القومية وتسلط أمريكا .. هل يتفكك النظام العالمي في 2019؟
يمرّ العالم بفترة تاريخية، خلال العامين الماضيين، وتحديداً مع تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، التي تقود المجتمع الدولي؛ بسبب قراراته "غير التقليدية" بالنسبة إلى أسلافه.
فسياسات ترامب أشعلت حرباً اقتصادية عالمية خصوصاً مع الصين، الشريك الاقتصادي الأكبر لبلاده، فضلاً عن انتهاجه سياسة "الدفع مقابل الحماية" مع دول حلف شمال الأطلسي، الأمر الذي أثار غضب حلفائه الأوروبيين، ووصل الأمر بالرئيس الفرنسي ليقترح، في نوفمبر الماضي، إنشاء "جيش أوروبي" بعيداً عن الوصاية الأمريكية.
لكن لا بد من الإشارة إلى أن صعود ترامب ترافق مع نمو الشعور بـ"القومية" و"النعرة اليمينية" على الضفة الأوروبية، خصوصاً انفصال بريطانيا "البريكست" عام 2016، وهو الأمر الذي زعزع من استقرار الاتحاد الأوروبي، الذي كان يُنظر له على أنه واحة الاستقرار الأقوى عالمياً.
كل هذه العوامل تُنبئ بأن العالم مقبل على تفكّك المنظومة الدولية القائمة حالياً، سواء كان في 2019 أو خلال السنوات القليلة القادمة، ولكن لصالح من؟ وما هو البديل المنتظر لعالم قد يكون متعدّد الأقطاب، بعد أن تفرّدت واشنطن بقيادة السياسة الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، عام 1990.
- تخلخل الناتو
حلف شمال الأطلسي "الناتو"، أكبر تحالف عسكري في العالم، شهد تصدّعاً بسبب سياسات ترامب، ومطالبه بتحمل الدول الأوروبية نفقات "حمايتها" من جانب الولايات المتحدة، وسداد 2% من موازناتها السنوية لبلاده.
هذا الأمر دفع بالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للدعوة إلى إنشاء جيش أوروبي موحّد، بعيداً عن الناتو وواشنطن، الأمر الذي أثار غضب ترامب.
وأبدى كلٌّ من ألمانيا، وبلجيكا، وبريطانيا، والدنمارك، وإستونيا، وهولندا، وإسبانيا، والبرتغال، والتشيك، موافقتهم على المبادرة الفرنسية لحماية أوروبا من التهديدات الخارجية، خاصةً القادمة من الصين وروسيا.
كما دعم رئيس المفوضية الأوروبية، جان كلود يونكر، وهو رئيس وزراء سابق للوكسمبورغ، فكرة الرئيس الفرنسي بتأسيس جيش أوروبي، لتكوين قدرة دفاعية بمعزل عن حلف شمال الأطلسي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
وفي توجّه غير مسبوق لدولة في الناتو، تتجه تركيا نحو تسلّم منظومة S400 الروسية الدفاعية، وهو ما شكّل اختراقاً للحلف الذي أُنشئ بالأصل لمواجهة روسيا، وذلك بسبب تلكّؤ الحلف عن الدعم في مواجهة التحديات الأمنية القادمة من دول الجنوب التركي.
الباحث وسام الكبيسي، رأى في حديث لـ"الخليج أونلاين" أن ما يجري في منظومة الناتو بمنزلة تمهيد لنشوء نظام دولي جديد بعيداً عن هيمنة واشنطن، موضحاً أن القوى الكبرى بدأت تتنصّل من بعض التزاماتها من منظمات النظام الدولي الحالي، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي وصف رئيسها، دونالد ترامب، "الناتو" بأنه منظمة "مهترئة".
وأضاف أن هناك تنافساً بين دول عدة لتزعّم هذا النظام بمواجهة هيمنة أمريكا حتى من جانب الدول الأوروبية نفسها، لكن هذا التحوّل الكبير بحاجة لسنوات؛ مخافة حدوث شرارات قد لا يتحمّل العالم نارها.
واعتبر الكبيسي أن "هناك دولاً داخل الناتو ليست متوافقة مع حسابات واشنطن اليوم وسياسة "أمريكا أولاً"، خصوصاً ألمانيا وفرنسا، وما دعوة ماكرون لإنشاء جيش أوروبي إلا في هذا السياق، الأمر الذي يجعلنا نعيش في فاصلة تاريخية بين النظام الحالي والنظام الدولي القادم. متوقّعاً أن تُعيد دول في الناتو حساباتها التحالفية"، مشيراً في ذات السياق إلى أن "هناك دولاً في الحلف بدأت تفكّك نسبياً اليوم تحالفاتها".
كما لفت إلى أن روسيا والصين تراقبان التطورات الجارية، ولا سيما أنهما متحالفتان اليوم بشكل كبير في عددٍ من الملفات، خاصة أن لديهما أوراق قوة لمواجهة أي تحديات ضدهما، وستأتي مرحلة سيكون هناك مرحلة "عضّ أصابع" بين الدول الكبرى، وسيكون الفصل لصالح من لديه أوراق ضغط أكثر.
- تصدّع الاتحاد الأوروبي
الاتحاد الأوروبي الذي يُنظر له على أنه المنظومة الأكثر استقراراً، تلقّى ضربة موجعة بخروج بريطانيا. ووسط الخلافات المتنامية بين الدول الأوروبية؛ التي تمثّل قضية الهجرة أحد أهم محاورها، لم يستبعد وزير الداخلية الإيطالي، ماتيو سالفيتي، في نوفمبر الماضي، تفكّكه في المستقبل المنظور.
كما أسهم وصول حزبين إلى السلطة في إيطاليا، من المتشكّكين الأوروبيين الداعين بوضوح إلى إضعاف دور الاتحاد، وإلى إعادة التعاون الكامل مع روسيا، مع نموّ النزعات القومية في عموم القارة العجوز، في تصدّعه.
وفي هذا السياق، كان تقرير استراتيجي رسمي ألماني، صدر عام 2017، توقّع انهيار الاتحاد في غضون 20 عاماً، موصياً بإحداث تطوير نوعي غير مسبوق بآلياته وتسليحه لمواجهة سيناريوهات متوقّعة الحدوث، خاصة في المجال الأمني.
وهنا يشير وسام الكبيسي إلى أن الاتحاد الأوروبي يواجه تحديات داخلية وخارجية، ولكن أي تغيير في خريطته سيأخذ فترة طويلة من الزمن، وقد بدأت دول تتحرك بالفعل للتعامل مع التغيير الأوروبي القادم.
وتوقع أن يتم التخلّي عن توسعة الاتحاد، وخروج عدة دول من صفوفه بعد بريطانيا، وفقدان أوروبا لقدرتها التنافسية بمجالات عديدة لصالح قوى صاعدة جديدة، أبرزها الهند وتركيا.
لكنه في نفس الوقت حذّر من أن تركيا تحديداً بحاجة لأن تلعب على الهامش وبعيداً عن الصدام مع الدول الكبرى؛ حتى تتمكّن من تقوية أوراقها التي تضمن لها مقعداً في النظام الدولي الجديد.
- الإطاحة بالدولار
وعلى أثر الحرب التجارية التي شنّتها الولايات المتحدة على عدد من دول العالم، أبرزها دول الاتحاد الأوروبي والصين، ارتفعت الدعوات من بعض الدول والاتحادات بضرورة إيجاد حل لهيمنة الدولار على النظام المالي العالمي؛ حيث تبنّى العديد من الدول توجّهاً بعقد الاتفاقيات فيما بينها بالعملات المحلية، كروسيا والهند وتركيا. كما أعلنت الصين أنها ستدفع وارداتها من النفط بـ"اليوان" وليس الدولار.
ويرى أحمد مصبح، الخبير الاقتصادي، أن "نجاح هذه المحاولات لن يكون سهلاً في زعزعة مكانة الدولار على الصعيد الدولي؛ فالدولار يهيمن على المعاملات العالمية، ويُنظر له كوسيط لمعظم المعاملات المالية، والتي تصل إلى 5.5 تريليون دولار يومياً، ويمثّل قرابة 85ا% من معاملات الصرف الأجنبي".
وأوضح أنه على الرغم من تصاعد حجم المحاولات للتعامل بالعملات المحلية فإن هناك صعوبات حقيقية وجوهرية تواجه نجاح هذا التوجّه، خاصة أن هذه الدول؛ مثل روسيا والصين والهند وغيرها، لا تستطيع التخلي بسهولة عن الدولار الأمريكي. كما أن خطوة كهذه تتطلّب إجماعاً دولياً من جميع الدول، خاصة في التبادلات التجارية التي يسيطر عليها الدولار، لذلك ليس من السهل النجاح. خاصة أن معظم الدول تعتمد على التجارة بصورة أساسية.
كما لفت إلى أن العديد من الدول تعاني من ارتفاع هائل في حجم الديون الخارجية والمقوّمة بالدولار، الأمر الذي يتطلّب استمرار الطلب على الدولار، ومن ثم تبدو فكرة تغيّر النظام العالمي في الوقت الحالي صعبة.
لكن في نفس الوقت توقّع مصبح أنه "إذا ارتفعت وتيرة هذه التوجهات في تبنّي العملات المحلية فإنه سوف يؤدي إلى إضعاف الدولار لا محالة، خاصة في ظل استمرار سياسة التسلّط التي تمارسها الإدارة الأمريكية".