رواندا .. من أرض الموت إلى عاصمة اقتصاد القارة السمراء
قبل 25 عاماً، كان الروانديون يلملمون جراحهم ويتفقدون منازلهم المدمرة، بعد حرب أهلية شرسة اشتعلت خلال الفترة ما بين 1990 و1994، بين قبيلتي "الهوتو" و"التوتسي"، أغرقت البلاد في الموت والدماء، وأنهكت اقتصادها حتى بات متوسط دخل الفرد السنوي لا يتجاوز 30 دولاراً.
وفي ظل الأفق المغلق آنذاك، اجتاح اليأس قلوب الناس، وهرب المستثمرون وأغنياء البلد وشبابها وكفاءاتها، فخسرت رواندا ثروتها البشرية، حتى باتت خالية من الكفاءات والطاقات والأموال، إضافة إلى افتقارها أصلاً إلى الموارد الطبيعية.
وكانت "أرض الألف تل"، تحتاج إلى معجزة لتضمن الأمن الغذائي لمن تبقى من سكانها؛ فالحرب الأهلية التي راح ضحيتها نحو مليون شخص قضت على كل شيء تقريباً.
ورغم حالة اليأس التي غزت قلوب الروانديين، فإن حكومة البلاد في ذلك الوقت كان لديها موقف مختلف، فوضعت خطة لتطوير الزراعة، وجلبت خبراء أجانب لأجل ذلك، وأنشأت شبكة هاتفية للمعلومات الزراعية ومكتباً للتصدير ونقل المحاصيل، ووفرت الأسمدة بأسعار رخيصة، ومعداتٍ زراعيةً للتأجير بأسعار مشجعة.
كما وفرت الحكومة قروضاً ميسرة للمزارعين، لتظهر نتيجة ذلك خلال 5 سنوات فقط، فعلى سبيل المثال ارتفع إنتاج القهوة من 30 ألف طن بعد الحرب إلى 15 مليون طن بعد الأعوام الـ5 التي تلت الحرب.
ولم تقتصر خطة الحكومة على تطوير الزراعة فحسب؛ بل شجعت أيضاً الاستثمارات الخارجية، ففي حين كان رجل الأعمال بدول كثيرة يحتاج إلى أسابيع أو شهور ليحصل على ترخيص بالعمل، وضعت رواندا قانوناً جديداً للاستثمار، وأنشأت ما يُعرف بنظام "الشباك الواحد"، الذي يمكِّن المستثمر من إنهاء جميع الإجراءات في مكان واحد وخلال بضع ساعات.
كما أسست الدولة مجلساً استشارياً للاستثمار والتطوير، كان أعضاؤه من الروانديين ذوي الكفاءات العليا والمنتشرين في مختلف دول العالم.
وألغت رواندا التأشيرة لجميع الأجانب، سواء أكانوا أفارقة أم أوروبيين أم غيرهم، وهذا ما جعل العاصمة كيغالي أكثر العواصم الأفريقية استقبالاً للسياح الأجانب حالياً، بالنظر إلى هذه التسهيلات وسلاسة الإجراءات في مطارها الدولي.
تحقيق المعجزة!
كل ذلك كان له نتائج اقتصادية يمكن وصفها بـ"المعجزة الحقيقية"، فاليوم رواندا، التي تقع في منطقة البحيرات العظمى بأفريقيا ولا تتمتع بواجهة بَحرية، بات اقتصادها الأسرع نمواً في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، وتضاعف نصيب دخل الفرد من ناتجها المحلي إلى 30 ضعفاً، وأصبحت واحدة من أهم وجهات المستثمرين والسياح بالعالم.
وخلال الفترة بين عامي 2000 و2015، حقق اقتصاد رواندا نمواً في ناتجه المحلي بمعدل 9% سنوياً.
وتراجع معدل الفقر في رواندا من 60% إلى 39%، ونسبة الأمية من 50% إلى 25%، وارتفع متوسط حياة الفرد من 48 عاماً إلى 64 عاماً.
وبحسب تقرير حديث لمنظمة دول تجمُّع السوق الأفريقية المشتركة (الكوميسا)، فإن رواندا واحدة من الدول الأفريقية الرائدة في مجال النمو الاقتصادي، وقد شهدت التطور الاقتصادي الأكبر على مستوى العالم منذ 2005.
وأشارت المنظمة في تقريرها، إلى أن قيمة الناتج الإجمالي المحلي للبلاد ارتفع إلى نحو 8.48 مليارات دولار أمريكي في 2016، صعوداً من 2.58 مليار عام 2005، و1.74 مليار عام 2000، و1.29 مليار دولار فقط في سنة 1995.
استقطاب المستثمرين
وبفضل هذا النمو الاقتصادي، تحولت رواندا إلى واحدة من الدول العشر الأكثر استقطاباً للمستثمرين في أفريقيا.
وأعلن بنك أفريقيا الجنوبية (راند ميرشينت بنك)، في تقرير له نهاية عام 2015، أن رواندا احتلت المركز التاسع بقائمة أكثر الدول استقطاباً للمستثمرين في القارة الأفريقية.
وبحسب التقرير، فإن رواندا وإثيوبيا وردتا لأول مرة في قائمة العشر الأوائل، مقابل غياب كل من كينيا وليبيا عنها.
واعتمد البنك الأفريقي، في تقريره، على معايير مختلفة؛ مثل: حجم السوق، والناتج القومي الخام، والنمو الاقتصادي، وجودة مناخ الاستثمار.
وعلى الرغم من أنها صغيرة، ولا تشتهر بشيء يميزها عن الدول المحيطة، باستثناء حيوانات الغوريلا لديها، فإن إيرادات السياحة لديها بلغت أكثر من 400 مليون دولار في عام 2016 فقط، وفق تقرير حكومي رسمي.
وتحتل العاصمة كيغالي مكانة متميزة بوصفها واحدة من أنظف المدن الأفريقية وأجملها، وتحقق السياحة حالياً نحو 43% من الدخل الإجمالي للبلاد.
ويرجع هذا إلى الحرص الشديد على الأمن، إضافة إلى تخفيض مقابل تأشيرة الدخول (الفيزا) إلى 30 دولاراً فحسب، بدلاً من 100 دولار قبل ذلك، فضلاً عن السماح لأغلبية السائحين بالحصول على التأشيرة في المطار.
كما اهتمت الحكومة الرواندية بزيادة عدد الفنادق في البلاد، فنمت السعة الفندقية للعاصمة وحدها بما يزيد على 1000% خلال الأعوام العشرة الأخيرة.
النمو والعجز
وفي أحدث أرقام الاقتصاد الرواندي، فإن وزارة المالية والتخطيط الرواندية أعلنت في 19 سبتمبر الجاري، أن اقتصاد البلاد توسع بنسبة 6.7٪ في الربع الثاني من عام 2018، مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي.
ووفقاً للمعهد الوطني للإحصاءات في رواندا، فقد نمت الزراعة بنسبة 6٪ في الربع الثاني من العام الجاري، مقارنة مع الفترة ذاتها من العام السابق، والصناعة بنسبة 10٪، في حين سجلت الخدمات نمواً بنسبة 5٪.
وخلال الفترة ذاتها، ارتفع إجمالي الإنفاق الاستهلاكي النهائي بنسبة 3٪، مع زيادة النفقات النهائية للأسر بنسبة 4٪، وزادت الصادرات الرواندية بنسبة 5٪.
ووفقاً لبيانات البنك المركزي الرواندي، فإن العجز التجاري لرواندا انخفض بنسبة 2% في النصف الأول من عام 2018، مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضى.
وأرجع جون روانجبومبوا، محافظ البنك المركزي، في تصريحات له نشرتها وسائل إعلام رواندية، انخفاض العجز إلى زيادة عائدات التصدير الرسمية، التي ارتفعت بنسبة 23.2% في النصف الأول من عام 2018.
وقال روانكومبوا: "كان انخفاض العجز التجاري ناجماً عن الأداء الجيد في الصادرات بتلك الفترة، فقد كانت هناك زيادة في أحجام الصادرات مثل المعادن والشاي والقهوة، وكذلك المنتجات المصنوعة في رواندا".
وأضاف: إن "اقتصاد رواندا مستمر في تسجيل أداء قوي بعد تسجيل نمو بنسبة 10.6% في الربع الأول من عام 2018، مقارنة بـ10.5 في الربع الأخير من 2017".