كيف ستنتهي "الحرب" الدبلوماسية المشتعلة الآن بين واشنطن وأنقرة؟

فرضت الولايات المتحدة الأمريكية عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين على خلفية استمرار احتجاز أنقرة القس الأمريكي أندرو برونسون، الذي تتهمه بدعم حركة فتح الله كولن المحظورة في تركيا؛ وهو الإجراء الذي قوبل من الجانب التركي برد فعل عنيف، تُبع بقرار مماثل بفرض عقوبات مماثلة بتجميد أي أصول في تركيا لوزيري الداخلية والعدل الأمريكيين.


ويأخذ الخلاف أبعادًا مختلفة غير موضوع القس الأمريكي؛ إذ كانت أمريكا قد رفضت منذ شهر صفقة تمت بين تركيا وروسيا بشأن استلامها صفقة من بطاريات الصواريخ الروسية «إس-400» فضلًا عن تلويح مجلس الشيوخ الأمريكي بفرض عقوبات على أنقرة، ومنع بيع طائرات «إف-35» الأمريكية للجيش التركي.

«إس-400».. من هُنا بدأ الخلاف
على مدار العقود السابقة؛ حظيت العلاقة بين تركيا وأمريكا بعلاقة أخذت شكل التحالف السياسي والعسكري في أغلب صراعات الشرق الأوسط، وتحولت معها أنقرة إلى حليف استراتيجي مهم لا بديل عنه بالنسبة للجانب الأمريكي؛ يُنظر له بقدر من الاهتمام من جانب واشنطن، انعكس على التنسيق المُشترك بينهما. لم ينقطع هذا التواصل الدائم سوى في عام 1974 أيام حرب قبرص على خلفية اختلاف مواقفهما؛ مما أدى إلى حظرٍ أمريكي على توريد الأسلحة إلى أنقرة، ومرور العلاقات بمرحلة جمود حوالي نصف عقدٍ.

حتمت الأوزان النسبية لكلا البلدين التنسيق المُشترك سواء عسكريًا أو اقتصاديًا وعودة العلاقات من جديد؛ لترتقي إلى مرحلة التحالف الذي صمد أمام المتغيرات السياسية التي مرت بها المنطقة العربية؛ قبل أن تجد العلاقات الثنائية أمام اختبار جديد هذه المرة مع نزاع بين البلدين تعلق باحتجاز أنقرة للقس الأمريكي أندرو برونسون؛ تتهمه بدعم حركة فتح الله كولن المحظورة، ورفضها الامتثال لأي ضغوط للإفراج عنه؛ ما أدى إلى تصعيد الخلاف بين البلدين، وفرض عقوبات مماثلة من كلا الدولتين.

لم تكن واقعة احتجاز القس الأمريكي بداية الخلاف بين تركيا وأمريكا؛ إذ تعود جذور هذا الخلاف الكبير لـقرار تركيا شراء بطاريات الصواريخ الروسية «إس-400» من روسيا، بعدما رفضت واشنطن تزويدها بأنظمة دفاع صاروخية من نوع «باتريوت».

كان لهذا التحرك التركي بالاتجاه نحو روسيا، خصم أمريكا التاريخي، صدى واسع داخل دوائر صنع القرار في واشنطن التي رأت هذا الأمر على أنه انحراف للتقاليد الراسخة لهذا التحالف بين الدولتين.

ولم تكن هذه الواقعة التي حركت دوائر صنع القرار الأمريكي تجاه أمريكا فحسب؛ بل تضمنت كذلك ما تكشف مساعدة المصرف الحكومي التركي «خلق بنك» إيران، دون اعتبار للعقوبات الأمريكية ضد إيران. وتضمنت المساعدة السماح لإيران بضخ مليارات اليورو من عائدات المحروقات في النظام المصرفي الدولي مقابل الذهب عبر البنك التركي الحكومي باعتباره واجهة للسلطات الإيرانية، وذلك بعلم من وزير الشؤون الاقتصادية التركي السابق ظافر شاليان، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

إزاء السياسة التركية المُنافسة للولايات المُتحدة الأمريكية في كلا الأمرين السابقين؛ ظهر اتجاه لدى عدد من نواب الكونجرس الأمريكي لرسم استراتيجية جديدة للتعامل مع تركيا، تتمحور حول استخدام التصعيد تجاهها لردعها عن هذه السياسة الجديدة التي ينتهجها أردوغان، وفق هؤلاء.

ونجح هذا الفريق -الذي ينتمي أغلبه للحزب الجمهوري- في تغليب وجهة نظره في الدفع نحو التصعيد ضد تركيا على خلاف الفريق الآخر من تيار كبير من الديمقراطيين ووزارة الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض الذي كان يرى ضرورة التنسيق، واعتماد مقاربة سياسية إزاء أنقرة لمعالجة هذه القضايا.

تمثل هذا النجاح في الدفع بتشريع قدمه عدد من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي أبرزهم توم تيليس (جمهوري من ولاية كارولاينا الشمالية) وجيمس لانكفورد (جمهوري من ولاية أوكلاهوما) وجين شاهين (ديمقراطية من ولاية نيوهامبشير) يستهدف توقيع عقوبات على مسؤولين أتراك كانوا السبب وراء اعتقال المواطنين الأمريكيين، وفق قولهم. وكذلك إجراءات لتأخير المشاركة التركية في مشروع «جوينت سترايك فايتر» لطائرات «إف-35» في ضوء شراء أنقرة بطاريات الصواريخ «إس-400» من روسيا.

أخرج هذا التوتر إلى العلن رفض تركيا إطلاق سراح القس برانسون الذي كان محتجزًا في تركيا منذ عام 2016 على خلفية اتهامه بدعم حركة فتح الله كولن المحظورة، بعدما طلب ترامب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الإفراج عن امرأة تركية محتجزة لدى السلطات الإسرائيلية باعتبار ذلك جزءًا من صفقة؛ لكنها قوبلت بالرفض من الجانب التركي.

وتجلى هذا التوتر المكشوف والحرب الكلامية في هيئة بيانات رسمية أمريكية تطالب أردوغان بالإفراج عنه؛ وإلا سيكون الخيار الآخر فرض عقوبات على بلاده؛ وهو الأمر الذي قوبل بعدم اهتمام كافٍ من جانب الرئيس التركي الذي بالغ في التصعيد بفرض عقوبات مماثلة على وزيري الداخلية والعدل الأمريكيين كما فعلت واشنطن مع نظيريهما في تركيا.

روسيا الرابح الأول من النزاع الأمريكي التركي
لطالما سعت روسيا لاجتذاب تركيا لتكون حليفة لها، عبر تقديم العديد من التسهيلات لجذب تركيا عضو الناتو إلى معسكرها؛ ومحو إرث العداوة التاريخية بين الاتحاد السوفيتي والدولة العثمانية؛ بعدما خاض الأتراك والروس أكثر من 12 حربًا.
كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أجاد استغلال واقعة إسقاط تركيا طائرة روسية عام 2015 -كانت قد انتهكت مجالها الجوي من سوريا- سياسيًا لسحب تركيا إلى معسكره عبر تجنب التصعيد العسكري مع أنقرة، خصوصًا بعدما رفض حلف «الناتو» استغاثات تركيا لمساعدته في تعزيز الدفاعات الجوية على حدودها.

نجح بوتين في استخدام الواقعة لمحو جزء من إرث هذه العداوة التاريخية؛ وهو ما انعكس على الاستجابة التركية في زيارة أردوغان لسانت بطرسبرغ في أغسطس (آب) 2016، للإعراب عن أسفه إزاء حادثة الطائرة، والتأكيد على تعزيز التنسيق والتعاون بين البلدين.

كانت أولى إشارات هذا التقارب بالتزامن مع بداية التوترات التركية مع الغرب وأمريكا اتصال بوتين بنظيره التركي في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة، متمنيًا له الخير، وذلك على خلاف أغلب مواقف الدول الغربية وأمريكا التي لم تحسم موقفها مما يحدث حتى الساعات الأخيرة.

وفقًا لسونر چاجاپتاي، زميل «باير فاميلي» ومدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن، فإن«الموقف الأمريكي المتشدد من تركيا أدى إلى تعزيز التقارب بين تركيا وروسيا سياسيًا من خلال «توصلهم إلى تسوية مؤقتة في سوريا، ومنح بوتين أنقرة الضوء الأخضر لعملية غصن الزيتون».

بالتوازي مع وقائع التشدد الأمريكي تجاه أنقرة، كانت روسيا تفتح لها أبوابها عبر تشجيعها على شراء نظام «إس-400 »، وإعلانه في زيارته الأخيرة لتركيا في 28 سبتمبر (أيلول) العام الماضي «أنه سيقدّم تاريخ تسليم النظام بعام واحد من 2020 إلى 2019، عارضًا في الوقت نفسه على الأتراك خيارات تمويل لشراء المنظومة التي تبلغ قيمتها 2.5 مليار دولار».

وقد خدمت العقوبات الأمريكية الأخيرة على تركيا الأهداف الروسية الرامية نحو تعزيز العلاقات الثنائية مع حليفتها التركية؛ فهي تسعى لاجتذاب تركيا، وزعزعة ثقتها تجاه حلف الناتو؛ خصوصًا في ظل عدم فاعليته الكافية في دعمها.

يدعم هذا الأمر الباحث سونر چاجاپتاي، إذ يرصد في ورقة منشورة على معهد واشنطن للشرق الأوسط: «أن بوتين يبدو أنه استجلب الأتراك إلى المكان الذي يريده بالضبط: أي حلفاء للناتو خاب أملهم ويعملون غالبًا مع روسيا».

وتوقع كذلك أن «من شأن العقوبات أن تقرّب تركيا أكثر فأكثر من موسكو -وربما بشكلٍ دائم-. وبدلًا من ذلك، إذا تخلى الكونجرس الأمريكي عن محور «معاقبة تركيا»، ستحظى إدارة ترامب بالمزيد من الوقت لحل المشاكل التكنولوجية والسياسية الخاصة بعملية شراء بطاريات الصواريخ «إس-400 »، وتتفادى في الوقت نفسه انهيار العلاقات الثنائية».

تعزز هذا التواصل كذلك بين الأتراك والروس وسط هذا التوتر القائم بين واشنطن وأنقرة من خلال تقاطع مواقفهما من الاتفاق النووي الإيراني، والذي تمثل في اتصال تليفوني بين أردوغان وبوتين انتهى إلى رفض كليهما للانسحاب من الاتفاق، والتمسك به، وانعكس بعد ذلك في التواصل الدائم بين الجانبين في بحث تسوية تضمن نفوذي روسيا وتركيا في معادلة التسوية.

الخلاف مجرد «سحابة صيف عابرة»
لا تبدو احتمالات استمرار التصعيد بين واشنطن وأنقرة ممكنة على المدى البعيد في ظل خصوصية العلاقة العسكرية بين الجانبين، والتي تُشكل المحور الرئيسي لكليهما. وقد يأخذ التصعيد مناوشات كلامية دون الشروع في إجراءات من شأنها إضعاف هذا التحالف.

يُعزز من هذه الطرح وجود تركيا باعتباره حليفًا أساسيًّا لدعم استراتيجية الأمن القومي التي أعلن عنها ترامب في ديسمبر (كانون الثاني) الماضي؛ فهي الحليف الوحيد في الناتو الذي يقع على حدود العراق وسوريا، وشريك استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية في قضايا أفغانستان وأوكرانيا مرورًا باللاجئين السوريين ووصولًا إلى دفاعات حلف الناتو ضد الصواريخ الإيرانية.

يدعم هذا الأمر كذلك عدم قبول البيت الأبيض ولا وزارة الخارجية الأمريكية فرض عقوبات على أنقرة فضلًا عن وزارة الدفاع الأمريكية، لاعتقاد راسخ بأهمية تركيا، وأن الضغط على أنقرة يأخذ وسائل أخرى على خلاف وسائل التصعيد التي يدفع بها أعضاء جمهوريون بالكونجرس الأمريكي.

كما يُدلل على ذلك سماح واشنطن، وسط تصاعد التوترات، بنقل أول طائرة مقاتلة من طراز «إف-35» إلى تركيا على الرغم من تهديدات الكونغرس الأمريكي بوقف مثل هذه المبيعات بسبب شراء أنقرة لأنظمة «إس-400».

وحسب ورقة منشورة لجيمس جيفري، سفير الولايات المتحدة السابق في تركيا، في معهد واشنطن للشرق الأوسط: فـ«إذا كانت إدارة ترامب جادة بشأن الأولويات المعلنة في «استراتيجية الأمن القومي» خلال ديسمبر الماضي -وتحديدًا التركيز على المنافسة مع الدول المعادية- فهي بحاجة إلى حلفاء أقوياء مثل تركيا، حتى وإن كان سجلّهم الوطني حافلًا بانتهاكات حقوق الإنسان وقضايا أخرى».

الأمر ذاته ينطبق على أهمية الولايات المتحدة لتركيا التي تجعل من الصعب استبدالها تمامًا بروسيا، وهو ما يُعزز فرضية أن اقتراب تركيا من موسكو لا تعدو كونها سوى مراوغة سياسية من أجل تحقيق أكبر قدر من المكاسب الأمريكية في العلاقة الثنائية بينهما.

ويُعزز من أهمية الولايات المتحدة الأمريكية لتركيا عضويتها في حلف الناتو منذ عام 1952، والتي رسخت التحالف بين الدولتين، ومنحت تركيا مكاسب لا حصر لها، فضلًا عن حاجة تركيا المُلحة للولايات المتحدة الأمريكية، لاستمرار تنفيذ خارطة الطريق المتعلقة بمنبج شمال سوريا، في الوقت الذي ما تزال فيه المواقف التركية بعيدًا عن مواقف موسكو وإن سعى الطرفان لتقريب المسافات. ويدعم ذلك أيضًا المخاوف التاريخية للأتراك من الروس في ظل العداوة المتجذرة بينهما، وميل الأتراك عمومًا نحو الغرب باعتبارهم حليفًا سياسيًّا مُفضلًا لهم عن الروس.

وبنظر البعض، فلا تعدو تصريحات أردوغان الحماسية تجاه أمريكا سوى كونها للاستهلاك الإعلامي؛ فهي تصريحات تلامس عواطف ناخبيه، محاولة من جانبه لاستمرار الدعم الشعبي، وهو الأمر الذي تكرر في فبراير (شباط) 2018 حين صعد أردوغان من لهجة خطابه حيث حذر الولايات المتحدة من التعرض لـ«صفعة عثمانية» في سوريا إذا ما دخلت القوات التركية منبج، قبل أن يتجاوز البلدان هذه الأزمة، ويصلان لتسوية بشأن الوضع في شمال سوريا.