ماذا بعد دعوة الصدر؟ .. نزع السلاح يقاطع الرغبات الإيرانية
أكبر سوق لبيع السلاح بشكل علني في العراق يوجد في هذه المدينة الشعبية التي عُرفت بكثافتها السكانية، وحملت منذ تأسيسها قبل أكثر من خمسة عقود حتى اليوم أربعة أسماء؛ في إشارة إلى أهمية هذه البقعة الواقعة شرقي العاصمة بغداد.
الحديث عن هذه المدينة، التي كان "الصدر" الاسم الرابع الذي تحمله، يطول كثيراً؛ لما لها من تأثير على مستوى العراق في مجالات شتى.
فالفقر الذي يعتبر رمزاً يميز سكانها كان وراء تميزها عن باقي أحياء بغداد في عدد القتلى في الحرب مع إيران في ثمانينيات القرن الماضي؛ فأبناؤها يدفعهم عوز عوائلهم للعمل وترك الدراسة، لكن الجندية ترصدهم بدخول سنهم الثامنة عشرة.
اقتداء سكان المدينة، المعروفة بغالبية شيعية، بالمرجع الراحل محمد صادق الصدر، هو ما دعاهم لنصرة ولده "مقتدى" بعد غزو البلاد في 2003، وظهور أول مليشيا مسلحة في العراق أنشأها الأخير مستعيناً بأتباع والده من سكان هذه المدينة، كان وراء حملها هذه المرة اسم "مدينة الصدر".
وبعيداً عن هذا الاسم، الذي جاء رابعاً للمدينة، بعد اسمها الأول "الثورة"، المرتبط بالثورة على الملكية التي قادها عبد الكريم قاسم عام 1958، أول رئيس لجمهورية العراق، لتتحول في عهد خلفه الرئيس الراحل عبد الرحمن عارف عام 1966 إلى "حي الرافدين"، رغبة من الأخير بقطع أي صلة لسلفه ببغداد.
ثم عاد اسمها الأول "الثورة" بعد تسلم حزب البعث الحكم في عهد الرئيس الراحل أحمد حسن البكر، لتحمل في عهد خليفته صدام حسين اسم "مدينة صدام".
لكن اهتمام جميع الحكومات المتعاقبة على حكم العراق بهذه المدينة لم يحسن من واقعها الخدمي والصحي شيئاً، فالمدينة معروفة لدى العراقيين بأنها من أسوأ أحياء بغداد من ناحية الخدمات.
الأكثر سوءاً عرفته هذه المدينة منذ حملت اسم "الصدر"؛ فمنذ ذلك الحين شهدت مجازر مفزعة؛ من جراء تفجيرات استهدفت أسواقها وأزقتها السكنية.
وفيما كانت تنظيمات مسلحة كـ"القاعدة" وتنظيم الدولة يتبنون هذه التفجيرات بداعي الانتقام؛ تحت ذريعة كون سكانها "صفوية" و"مرتدين"، تكشف مصادر لـ"الخليج أونلاين" أن الكثير من هذه التفجيرات لا تعدو كونها "تهديدات ورسائل من مليشيات أخرى تتبع أطرافاً في الحكومة العراقية".
- المدينة التي تعلو على القانون
و"مدينة الصدر" اليوم تعتبر أكبر منطقة تحتوي على أسلحة خفيفة ومتوسطة، وصواريخ لمختلف المديات؛ فالسوق الأشهر "مريدي" الذي يمتد على مسافة عدة أحياء كان يعرف قبل 2003 بأنه سوق كل شيء.
بل إن في السوق مزورين محترفين، يجيدون تزوير أي وثيقة وإن كانت بالغة التعقيد، كان ذلك يحصل في وقت عرف البلد بخضوعه لحكم صارم، يعاقب المزورين بأحكام سجن تصل لعدة سنين، حتى إن الأمر وصل حينها لبيع الأسلحة في هذا السوق، لكنها لم تكن بشكل علني، ويسري البيع فقط بين الثقاة.
لكن بعد غزو البلاد تغير الواقع كثيراً؛ فالسوق هذا أصبح تعرض فيه مختلف الأسلحة بالعلن، وعلى طاولات للعرض أمام المحال وعلى الأرصفة.
يقول أحد الباعة: "نعم إنها مدينة الصدر؛ المدينة التي تعلو على القانون". كان البائع شاباً في مقتبل العمر ويعرض مجموعة من قاذفات الـ"آر بي جي 7" على الرصيف.
وأضاف وهو يواصل التعبير عن الزهو بحاله وحال مدينته- رداً على سؤال لمراسل "الخليج أونلاين"، إن كان باعة السلاح يواجهون ملاحقات من قبل الجهات الأمنية-: "لا أحد يجرؤ على معاقبتنا. مدينة الصدر هي القانون".
- تفجير يفضح مخازن عتاد المليشيات
لكن هذه المدينة التي يفخر باعة السلاح فيها بأنها أكبر من القانون، شهدت قبل أيام حدثاً مرعباً، جاء ضمن سلسلة مشاهد الدمار التي شهدتها منذ أن حملت اسمها الجديد "الصدر".
فقد قُتل وأصيب أكثر من مئة مدني في تفجير مخزن للعتاد داخل الأحياء السكنية وقع ليل الأربعاء-الخميس، 7 يونيو 2018.
أصابع العراقيين، وفي شبه إجماع، توجهت إلى القيادات السياسية والمليشياوية، متهمة إياهم بالوقوف خلف هذا التفجير، هذا ما يؤكده البحث في مواقع التواصل الاجتماعي.
فكتلة "سائرون" حققت المركز الأول بعدد الأصوات في الانتخابات النيابية التي جرت مؤخراً.
هذه الكتلة التي ضمت أحزاباً غير دينية، بينها الحزب الشيوعي العراقي، يتزعمها مقتدى الصدر.
ومعروف أن مدينة الصدر هي المعقل لأتباع مقتدى، وهو ما يستدل به من يتهمون مناوئين للصدر بافتعال التفجير الدامي لتهديد الصدر وإفشال تبنيه إقامة حكومة من تشكيل يخلو من بعض الأطراف السياسية النافذة.
وما يجعلهم أكثر ثقة بتوجيه اتهامهم، وأكثر إقناعاً للآخرين، تصريح تلفزيوني موثق لنائب رئيس الجمهورية المنتهية ولايته، رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، المعروف بخلافه مع الصدر، قبل موعد الانتخابات بأيام قليلة، بأن تشهد البلاد حرباً أهلية.
وقال المالكي لقناة عراقية محلية، في 9 مايو الماضي: إنّ "الحرب الأهلية قد تندلع بعد الانتخابات، إذا لم تكن العملية الانتخابية عادلة".
وكان تصريح المالكي هذا انتشر كالنار في الهشيم بين العراقيين، لا سيما أن رئيس الوزراء السابق فقد الكثير من شعبيته بعد أخطاء فادحة في خلال قيادته الحكومة (2006 - 2014) حيث شهدت هذه الفترة اقتتالاً أهلياً بين الشيعة والسنة.
أيضاً، شهدت هذه الفترة فساداً مالياً كبيراً، ويتهم المالكي بأنه وراء هدر موازنات طائلة على مشاريع وهمية، والاتهام الأبرز الذي يلاحقه أنه أحد أبرز أسباب سقوط الموصل (شمال) في يونيو 2014، وانتشار تنظيم الدولة في البلاد وسيطرتها على ما نسبته ثلث أراضي العراق.
وتعرف العلاقة بين الصدر والمالكي بأنها غير جيدة، وكثيراً ما كان الأخير يتلقى اتهامات من قبل الأول بتأجيج الطائفية واستغلال منصبه لأغراض فئوية وطائفية.
- الصدر يبادر بنزع السلاح
على إثر التفجير الأخير الذي شهدته مدينة الصدر، والكشف عن وجود مخازن عتاد داخل الأحياء السكنية التي تسببت بمقتل مدنيين، دعا مقتدى، يوم الجمعة 8 يونيو الجاري، إلى حملة لنزع السلاح في جميع أنحاء العراق.
ودعا الصدر كل الجماعات المسلحة إلى تسليم أسلحتها للحكومة، معلناً أن معقل تياره في بغداد، مدينة الصدر، سيكون أول منطقة تصبح منزوعة السلاح.
وقال الصدر لأنصاره في بيان: "على الجميع إطاعة الأوامر وعدم عرقلة هذا المشروع وتسليم السلاح من دون أي نقاش؛ لأن دماء العراقيين أغلى من أي شيء آخر عندنا".
وذكر البيان أنه دعا أهل مدينة الصدر إلى "التحلي بالصبر وضبط النفس وتفويت الفرصة على الأعداء"، وهي إشارة واضحة بالنسبة للعراقيين أن المقصود قوة متنفذة موجودة في داخل الحكومة.
وشدد الصدر على ضرورة أن تشمل حملة نزع السلاح كل الجماعات المسلحة، محذراً من أن تستهدف هذه الحملة أتباعه فقط.
وقال: "أكرر: يجب ألا يُستهدَف التيار الصدري بهذا المشروع، وإلا حدث ما لا تحمد عقباه، مع محاولة تطبيق ذلك على الجهات الأمنية الرسمية التي تستعمل السلاح بلا إذن وبلا رحمة، فالقوات ما زالت فتية تحتاج إلى غربلة وإعادة تأهيل وتصفية فورية وسريعة. ونحن مستعدون لتقديم أي معونة ومشورة بهذا الصدد".
يقول محمد البياتي، وهو قيادي سابق في "جيش المهدي"، التابع للتيار الصدري، المجمد من قبل الصدر، إن حديث زعيم التيار حول الجهات الأمنية في بيانه، لكون جزء كبير من هذه الأجهزة تتبع قيادات حكومية أبرزها المالكي.
وأكد لـ"الخليج أونلاين" أن "نزع السلاح أمر صعب التحقيق؛ هناك عشرات القوى المسلحة، فضلاً عن العشائر. الجميع مسلحون بأسلحة تصل إلى الثقيلة، وهذا ما شاهدناه في اقتتالات عشائرية تقع باستمرار في جنوبي العراق".
بدوره فإن رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الذي جاءت كتلته في المركز الثالث في الانتخابات، قال إن تخزين الذخيرة في منطقة سكنية "جريمة"، وأمر وزارة الداخلية بالتحقيق في الحادث واتخاذ الإجراء القانوني ضد من فعل ذلك، وأصدرت الوزارة بياناً أعربت فيه عن شكرها للصدر وبيانه.
- هل ستُنفذ مبادرة نزع السلاح؟
الواضح أن الصدر اشترط في مبادرة نزع السلاح أن تلتزم بها جميع الأطراف المسلحة في البلاد.
ويفوق عدد المليشيات المسلحة الـ 50 فصيلاً، بينها فصائل معروفة بسطوتها، كحزب الله فرع العراق، وعصائب أهل الحق، والخرساني، وأبو الفضل العباس، وكتائب الإمام علي.
ومعروف أن أبرز هذه الفصائل تتمتع بقوة كبيرة، وتشترك بمعارك في سوريا إلى جانب نظام الأسد بدعم إيراني.
ومؤكد أن أغلب قادة هذه المليشيات يوالون طهران، ولهم علاقات وارتباطات بقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني.
ذلك ما أكده كثير من قادة المليشيات في تصريحات متلفزة، بينما يعتز أكبر قادتها، وهما أبو مهدي المهندس وهادي العامري، بالولاء لإيران، وسبق أن قاتلا إلى جانب القوات الإيرانية في حرب السنوات الثماني بمواجهة القوات العراقية، ولهم صور ومقاطع فيديو موثقة في هذا الشأن.
وعليه؛ يرى محمد البياتي أن دعوة الصدر لنزع السلاح "تقاطع رغبة طهران في وجود أذرع تابعة لها داخل المنطقة، خاصة العراق".
وذكر أن "من أهم القوى التي تتمتع بها إيران وجود مليشيات تابعة لها في العراق تملك نفوذاً داخل الحكومة، وتشارك في التأثير على القرار العراقي، وتتمتع بتحرك حرّ داخل البلاد، يسمح لها بالتواصل مع أطراف أخرى تابعة لإيران في سوريا ولبنان ودول خليجية، ويسمح لها بنقل السلاح وإيصاله لمناطق في داخل البلاد وخارجها".