بقلم محمد قدو أفندي: دوافع اختيار النظام الرئاسي في تركيا

 بقلم محمد قدو أفندي: دوافع اختيار النظام الرئاسي في تركيا
بقلم محمد قدو أفندي: دوافع اختيار النظام الرئاسي في تركيا

من المؤكد أن الأحداث المحيطة بدولة تركيا كانت أحد الأسباب الرئيسية، أو ربما الوحيدة، في دعوة زعيم الحركة القومية، دولت بهجلي، إلى إجراء انتخابات مبكرة في تركيا؛ تتحول بها تركيا عملياً من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي.


وحتماً يتساءل البعض عن سبب صدور هذه الدعوة من زعيم حزب لم يكن مشاركاً في الحكومة الحالية، وبمعنى أدق أن حزب الحركة القومية هو حزب معارض في عرف النظام البرلماني، رغم التحالفات المعلنة بين حزب الحركة القومية وحزب العدالة والتنمية الذي يرأسه الرئيس رجب طيب أردوغان، بعد الانقلاب الفاشل في 15 يوليو 2016.

ومع تأكيد قيادة حزب العدالة والتنمية مراراً عدم تقديم موعد الانتخابات عن موعدها المقرر، الذي حدد يوم 3 نوفمبر 2019. ليبقى ذلك الموعد تحديداً هو المتفق عليه لإجراء الانتخابات كل خمسة أعوام.

في ظل الأوضاع الإقليمية التي بدت أرضاً خصبة للأطماع الدولية، التي حاولت جهدها إيصال أوضاع هذه الدول إلى ما وصلت إليه بغرض تيسير السيطرة عليها والتحكم فيها خدمة لمصالحها.

والأتراك كانوا أول من تيقنوا حقيقة تلك المخططات منذ بدايتها وأدركوا أيضاً أن النظام البرلماني السائد حالياً ربما يكون معرقلاً للكثير من القرارات التي تصدر غالباً من البرلمان، والتي تحتاج إلى الكثير من الإجراءات المؤسساتية والتشريعية والتوافقية، لذا ولدت فكرة التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي لتلبي طموح الشعب التركي في معالجة أي طارئ محتمل يؤثر بصورة مباشرة على الأمن القومي، إضافة إلى ذلك فإن هذا النظام يعتبر نظاماً ديمقراطياً تمثيلياً قائماً على فصل السلطات الثلاث؛ التنفيذية والتشريعية والقضائية.

وقد رأى "مونتسكيو"، وهو الذي استلهم نظرية فصل السلطات من الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك"، أن تداخل السلطات يُؤثر سلباً على النظام الديمقراطي، معللاً الحالة السلبية في تناغم البرلمان والحكومة المنبثقة عنها قد يكون عامل تواطئ في إمرار القرارات، نتيجة الولاء السياسي لأعضائه، مما يُفرغ مهمته الرقابية من مضمونها ويقضي عليه كسلطة موازية مفوضة شعبياً وضامنة للتوازن.

وبمعنى أدق إن النظام الرئاسي يعتمد بشكل كبير وعملي على مبدأ فصل السلطات بصورة صارمة وحدية مع عدم إفساح المجال لأية صيغة تداخلية تناغمية بين السلطتين التنفيذية والتشريعية على وجه الخصوص، مع إبقاء السلطة القضائية خارج الهيمنة السياسية والحزبية، وإعطائها دوراً متكاملاً مستقلاً لا تتأثر بتلكما السلطتين.

ومن البديهي القول إن التعديلات الدستورية التي جرت في عام 2017 بتركيا ركزت على الدور البرلماني في استخدامه صلاحيته في الرقابة والتفتيش، والحصول على معلومات عبر "تقصٍّ برلماني"، أو "اجتماع عام"، أو "تحقيق برلماني"، أو "سؤال خطي".

والتعديل الآخر هو السماح للرئيس المنتخب بعدم قطع صلته بحزبه، وكذلك تمديد ولاية رئيس الدولة إلى خمس سنوات بدلاً من أربع، مع حق الترشيح لولايتين بعد أن كانت مقتصرة على ولاية واحدة، حسب دستور 1982، شرط فوزه بأغلبية مطلقة، أو ما يسمى "خمسين زائداً واحداً"، وبذا يتولى رئيس الدولة صلاحيات تنفيذية، وقيادة الجيش، ويحق له تعيين نوابه والوزراء وإقالتهم، مع الاحتفاظ بحق تعيين نائب له أو أكثر. ورغم هذا فإن من حق البرلمان طلب فتح تحقيق بحق رئيس الدولة ونوابه والوزراء، ولا يحق للرئيس في هذه الحالة الدعوة إلى انتخابات عامة، وتم بهذا التعديل إلغاء مجلس الوزراء ومنصب رئيس الوزراء بعد تولي رئيس الجمهورية مهام وصلاحيات السلطة التنفيذية، إضافة إلى توليه مسؤولية عرض الميزانية العامة على البرلمان للمصادقة عليها.

إن النظام البرلماني المعمول به بتركيا قد أفرز الكثير من المشكلات المستعصية سابقاً، والتي أثرت بصورة مباشرة على أمن واستقرار تركيا، فعلى سبيل المثال لا الحصر نتذكر أحداث أزمة الرئاسة التركية، فمع اقتراب ولاية الرئيس جودت صوناي 1966-1973 من نهايتها في مارس عام 1973 دخلت الأحزاب السياسية مع الجيش في حالة من صراع الإرادات والتوجهات.

فالعسكر كانوا في أوج قوتهم، وخصوصاً بعد انقلاب عام 1971، وكان لهم مرشحهم وهو فاروق غولير، وهو ضابط سابق، وكان يشغل منصب قائد القوة البرية ثم أصبح عضواً في مجلس الشيوخ.

أما الأحزاب السياسية المتمثلة في المجلس الوطني التركي الكبير فكان لهم مرشحون آخرون، فلحزب العدالة مرشح، وللحزب الديمقراطي الجديد مرشح آخر، بيد أن حزب الشعب الجمهوري امتنع عن حضور جلسات المجلس الوطني الخاصة بالاقتراع على انتخابات رئيس الجمهورية.

إلا أنّ العسكر المهيمن على الحياة السياسية قام باقتراح يقضي بتعديل الدستور لتحديد ولاية جودت صوناي، لكن الاقتراح رفض من قبل الأحزاب المتمثلة في البرلمان التركي.

وانتهت الأزمة الرئاسية عندما وافقت الأحزاب المشتركة في المجلس الوطني على انتخاب مرشح العسكر، الأدميرال المتقاعد فخري قورتوك، كحل وسط ، الجدير بالذكر أنّ دستور 1960 لا يجيز إعادة انتخاب رئيس الجمهورية لولاية أخرى، وبعد أن انتهت هذه الأزمة بدأت أزمة رئاسية أخرى عندما اقتربت ولاية قورتورك من نهايتها في أبريل عام 1980.

تميزت الفترة بين 1973-1980 بإفلاس سياسي بطيء، أدى إلى انفجار الدولة والمجتمع؛ لأن الحياة السياسية مرت بأزمة عدم ثقة عميقة بين الدولة والمجتمع، ومنذ عام 1973 صارت التشكيلات الحكومية غير مستقرة، وهذا ما يؤكد إخفاق النظام البرلماني في خلق أرضية مناسبة للاستقرار السياسي، الذي بدوره يؤدي إلى تدهور الحالة الأمنية والاقتصادية في البلد، وبالتحول إلى النظام الرئاسي يبتعد البلد كلياً عن خلق أزمات متتالية، بعد ابتعاد مرشح الرئاسة عن تأثير الكتل النيابية داخل البرلمان، إضافة إلى منع حدوث أزمة دستورية بسبب الفراغ السياسي الذي قد يسببه تأخر تسمية رئيس الجمهورية بصيغة توافقية برلمانية.