"الخصم والحكم".. كيف تحاول موسكو أن تبدو وسيطًا بين الجميع في سوريا؟
يمكن تصنيف الأطراف المنخرطة في حرب ما إلى عدو أو حليف أو وسيط، للوهلة الأولى، لا يمكن لطرف ما أن يجمع بين صفتين في الوقت ذاته، فلا يكون عدوًا ووسيطًا، أو حليفًا ووسيطًا، لكن بوتين يثبت مرة أخرى أنه يغرد خارج قواعد المنطق وأعراف السياسة، حين يحاول أن يكون خصمًا وحكمًا، لاعبًا ووسيطًا في سوريا في الوقت ذاته، ويبدو أنه ينجح في ذلك إلى حد كبير.
إسرائيل و إيران
موسكو لا تبحث عن نار شاملة يتعذر إخمادها، وقد تؤول إلى تبعات مؤذية غير مقصودة. لكنها مع ذلك ليس لها مصلحة في حل الخلافات الإسرائيلية-الإيرانية. لا بأس إذًا من توتر مستمر يغذيه بين الحين والآخر تصعيدٌ يستدعي تدخلًا روسيًا. هذا هو الوضع الأمثل بالنسبة لموسكو.
بهذه العبارة وصف الكاتب الإسرائيلي «تشيمي شاليف» في صحيفة هآرتس حقيقة الموقف الروسي تجاه التوتر الإيراني-الإسرائيلي الذي كان أبرز حلقاته قبل أيام حين تمكنت الدفاعات الجوية السورية من إسقاط طائرة لسلاح الجو الإسرائيلي من طراز إف-16، ليعقبه ما وصفته إسرائيل بأنه أكبر عمليات جوية في سورية منذ اجتياح لبنان 1982.
الصحيفة ذاتها كشفت في تقرير آخر عن دور روسي لوقف تصعيد محتمل على الجبهة السورية، إذ ذكرت أن مكالمة من الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» لرئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» هي ما أدى إلى وضع حد للمواجهة، بعدما اقترح بوتين على الطرفين «حلًا مقبولًا بالنسبة لكليهما» بحسب وصف الصحيفة.
ووفق هآرتس، فإن الغارات الإسرائيلية كانت قد استدعت قلق موسكو، لأنها وقعت بالقرب من مناطق انتشار عسكريين روس قرب مطار «تي فور» العسكري، الأمر الذي كان يعني أن «استعادة الهدوء» هي ضرورة روسية، قبل أي شيء آخر.
تبدو «دبلوماسية الوساطة» الروسية وسيلة وهدفًا في الوقت ذاته، إذ يستطيع بوتين – عبر انتهاج هذه السياسة – أن يجعل من موسكو حجر الزاوية للحفاظ على الاستقرار في سوريا، ليصير «سيد الشرق الأوسط» كما وصفته هآرتس، الذي تسعى إليه كل أطراف اللعبة، كما أنها في الوقت ذاته، تمكنه من «تقليم أظفار» بعض اللاعبين، عبر السماح بهوامش حركة للخصوم وقت الحاجة، ووفق ضوابط معينة.
يمكن قراءة ذلك مثلًا في «سماح» روسيا – وهي التي تسيطر على السماء السورية تمامًا عبر أنظمة صواريخ «S 400» المتطورة التي نشرتها على الجبهة السورية – لسلاح الجو الإسرائيلي بتنفيذ هجمات ضد أهداف إيرانية أو ضد أهداف لحزب الله في سوريا، ولم تكن تلك الضربات لتتم بدون سماح من الجانب الروسي الذي يُحكم سيطرته على الأجواء السورية كما ذكرنا.
الأسد بلا مبادئ، وناكر للجميل بسبب اتفاقه مع الروس حول تسليم ملف إعادة إعمار سوريا للروس بدلًا من إيران. صحيفة «قانون» الإيرانية.
رغم انخراط الجانبين، الروس جوًا والإيرانيين وحلفائهم برًا، في حرب ضارية لدعم بقاء الرئيس السوري «بشار الأسد» في السلطة، يُمكن بسهولة رصد مواطن للشقاق بين الجانبين، ففي حين يحرص الإيرانيون على ضمان موطئ قدم لهم في سوريا، عبر نموذج ميليشياوي شبيه بنموذج حزب الله في لبنان، وفي الوقت الذي يتمسكون فيه بسيطرة بشار الأسد على السلطة، ويعتبرون رحيله «خطًا أحمر»، يشرع الروس في إحكام سيطرتهم على صناعة القرار على الساحة، ويبدون اهتمامًا أكبر ببقاء مؤسسات للدولة السورية، ولو جاءت على حساب الأسد.
كما أن ثمة خلافات واضحة بين الجانبين حول أيهما أحق بنيل النصيب الأكبر من «كعكة» إعادة إعمار سوريا، وتبدي إيران مخاوف كبرى من الاستئثار الروسي بهذا الملف، بشكل يحرم طهران من الاستفادة من «تضحياتها» الكبرى في المعركة السورية منذ بدايتها.
لعبة «الشرطي الجيد» بين النظام والمعارضة
أواخر يناير (كانون الثاني) الماضي، استضافت مدينة سوتشي الروسية «مؤتمر الحوار الوطني السوري» الذي انطلق بحضور المبعوث الأممي إلى سوريا، «ستيفان دي ميستورا»، وفي حين شهد المؤتمر إشكالات عدة تسببت في انسحاب وفد المعارضة السورية، بعد اتهام منظمي المؤتمر بالتحيز لنظام الأسد، فقد كانت الاستعدادات الروسية التي سبقت المؤتمر – وجهت الدعوة لنحو 1700 شخصية بما فيها بعض أطياف المعارضة السورية – تشي بطموح موسكو الجارف للعب دور أكبر في هندسة العملية السياسية في سوريا المستقبل.
يبدو من المنطقي التساؤل: كيف يمكن لموسكو وهي التي تصول طائراتها وتجول في سماء سوريا للفتك بأي فصيل معارض قد يشكل خطرًا على سلطة الأسد، كما أنها صاحبة الفضل الأكبر في حمايته من السقوط، كيف لها أن تستضيف مؤتمرًا يجمع الخصوم، ثم يخرج وزير خارجيتها للتأكيد أن مؤتمرًا كهذا «فريد من نوعه لأنه يجمع أطيافًا سياسية واجتماعية مختلفة للمجتمع السوري»، ثم يعرب عن أمله في «حوار فعال بين السوريين للوصول إلى تسوية سياسية شاملة»، هكذا وبكل بساطة، كيف تحاول روسيا أن تصبح «الخصم والحكم» في سوريا في الوقت ذاته؟
في مقاله بصحيفة المونيتور، يفسر الباحث والصحفي الروسي «مكسيم سوشكوف» السلوك الروسي «الدبلوماسي» في سوريا، الذي يسير جنبًا إلى جنب مع الجهود العسكرية، حيث تسعى روسيا – خلافًا لإيران – إلى تسويق نفسها كـ«شرطي جيد» بالنسبة للمعارضة، التي باتت بعض فصائلها تنظر إلى روسيا باعتبارها أهون الشرّين مقارنة بإيران.
أضف إلى ذلك محاولة الروس استغلال تعقد المسار الأممي للمفاوضات، عبر العراقيل التي واجهتها محادثات جنيف قبل ذلك، لـ«انتقاء المجموعة الصحيحة» من المعارضة، وإضفاء شرعية عليها، ومنحها دورًا أكبر في مستقبل البلاد، مع تهميش المجموعات الأكثر راديكالية والتي بإمكانها أن تعوق تنفيذ خطط موسكو في سوريا.
تسعى روسيا إذًا إلى فرض نفسها وسيطًا في النزاع السوري، مع غياب أي دور فاعل للأمريكيين، يخبر بوتين الجميع أنه بإمكانه ببساطة أن يتدخل لحماية حليفه عسكريًا، ثم ينشئ منصة مفاوضات خاصة به يدعو إليها من يختاره، ويتوصل من خلالها إلى قرار ثم يفرضه، ما الذي يحتاج إليه أكثر من ذلك ليثبت أنه «سيد الشرق الأوسط» حقًا؟
موسكو بين الأكراد وتركيا.. السير على الحبلين
في 13 فبراير (شباط) الماضي، وفي خلال مؤتمر صحفي أجراه بالاشتراك مع نظيره البلجيكي، شن وزير الخارجية الروسي «سيرجي لافروف» هجومًا على واشنطن، معتبرًا أنها تتصرف في سوريا «بشكل منفرد وعلى نحو خطير»، واتهمها بمحاولة «إنشاء دولة مصطنعة شرقي ضفة نهر الفرات» ما يؤدي إلى تقويض وحدة الأراضي السورية.
وكما هو واضح، يُمكن أن نلمح في الهجوم الروسي على الولايات المتحدة، وسياستها التي تدعم دولة مستقلة كردية شرق الفرات، «تعاطفًا» روسيًا مع الأتراك، الذين تتركز عملياتهم العسكرية في سوريا على منع نشوء هذا «الكيان المصطنع»، وبرغم أن لافروف أعاد التأكيد على أهمية إشراك الأكراد في رسم مستقبل سوريا، كجزء أصيل من المجتمع، فإن العمليات التركية ضد الأكراد في عفرين قد حظيت بدعم موسكو، التي سحبت العشرات من عناصر الشرطة العسكرية الروسية من شمال المدينة قبل بدء العمليات، كما امتنعت دفاعاتها الجوية عن التعرض للطائرات التركية التي حلقت في سماء عفرين بحريّة.
تمثل عملية عفرين بشكل خاص مثالًا بارزًا على الدور الذي تلعبه موسكو في السير على كل الحبال، إذ إن موسكو – وإلى وجانب أنها لم تبدِ عداءً ظاهرًا للجهود التركية – فإنها لم ترفع الغطاء تمامًا عن الميليشيات الكردية، إذ تحدثت تقارير عن وساطات روسية بين النظام والأكراد، تهدف إلى تسليم عفرين إلى قوات النظام السوري، أو ميليشيات موالية له، وهي الوساطات التي لم تكلل بالنجاح في نهاية المطاف، وإن كانت تثبت قدرة الروس على أن تحظى بصداقة كل الخصوم وثقتهم في الوقت ذاته.