مع تخلّي الرياض عنه .. لبنان يبحث عن دعم دولي
بعد تاريخ طويل من الدعم العربي، وخصوصاً الخليجي، للبنان، تعتزم بيروت التوجه نحو المجتمع الدولي لإيجاد بديل عن الدعم الإقليمي الذي تقول دول عربية إن مليشيات "حزب الله" هي المستفيد الأول منه؛ لأنها المسيطر الأساسي على خزينة الدولة.
ومع تواصل معاناة لبنان من أزمات اقتصادية وسياسية متتالية، تعهدت الرياض، نهاية عام 2013، بتقديم هبة إلى بيروت بقيمة ثلاثة مليارات دولار لشراء أسلحة من فرنسا، وأخرى بقيمة مليار دولار إلى قوى الأمن الداخلي.
وتسلمت الحكومة اللبنانية بالفعل دفعة على الأقل من هذه الهبة، لكن سرعان ما أوقفت السعودية المنحة لاحقاً؛ بسبب رفض لبنان الزجّ بها في المشاكل السياسية بين الرياض وطهران.
- عقود من النفقات وإخفاق سياسي
وعزت الرياض آنذاك موقفها من الدعم إلى أنها أجرت مراجعة شاملة لعلاقاتها مع لبنان بما يتناسب مع مواقفها المناهضة للمملكة إقليمياً ودولياً، وقالت إنها اتخذت قرارات منها إيقاف المساعدات المقررة لتسليح الجيش اللبناني عن طريق الجمهورية الفرنسية وقدرها ثلاثة مليارات دولار.
كما أوقفت الرياض أيضاً ما تبقى من مساعدة المليار دولار التي كانت مخصصة لقوى الأمن الداخلي اللبناني، بحسب ما ذكرت وكالة الأنباء السعودية (واس).
وجاء وقف المساعدات السعودية رداً على امتناع بيروت عن إدانة الهجمات التي تعرضت لها ممثليتا السعودية في إيران من قبل محتجين على تنفيذ الرياض حكم الإعدام بحق الشيخ السعودي نمر النمر، حيث قطعت السعودية علاقاتها بإيران إثر تلك الحادثة.
وأصدرت الجامعة العربية بياناً يدين الحادث لكن وزير الخارجية اللبناني، جبران باسيل، امتنع (في يناير 2016) عن التصويت على البيان، وهو ما أثار حفيظة الرياض.
ورغم دعم السعودية الذي استمر 15 عاماً وجاء مصحوباً بتصريحات استفزازية أحياناً، ومع بحثها عن وسيلة لتقويض هيمنة مليشيات "حزب الله" على أمن البلاد، فقد راهنت الرياض على حلفائها "الضعفاء" للتأثير في السياسة اللبنانية مثلما يتحرك حزب الله المدعوم من إيران، والذي يتحكم في القرار اللبناني داخلياً وخارجياً، إلا أن سياستها قوبلت بالفشل طيلة السنوات الماضية.
وفشل السياسة السعودية المتواصل، وتعاملها السلبي مع حلفائها منذ عقود، ساهم بشكل كبير في تقلُّص نفوذها في المنطقة منها لبنان، إذ مثَّل انتخاب ميشال عون رئيساً للبنان (مدعوم من حزب الله وبشار الأسد)، في أكتوبر عام 2016، بضمانة الدعم الذي قدمه له رئيس الحكومة سعد الحريري، رجل الأعمال الذي أغدق عليه السعوديون بسخاء، ضربة مرتدة وصفعة قوية بالنسبة للمملكة، بحسب ما كتبه الكاتب البريطاني ديفيد هيرست، في موقع "ميدل إيست آي" عام 2016.
- فرنسا تدخل على الخط
ومنذ أزمة استقالة الحريري من الرياض (5 نوفمبر 2017)، وانحياز فرنسا علناً إلى جانب الحكومة اللبنانية، تبنَّت باريس مبادرة دعم الاستقرار بلبنان، لتنقل مصادر الدعم من الدائرة العربية إلى المجتمع الدولي، وذلك عن طريق إقامة مؤتمرات دولية، إلا أن الدعم المزمع ترفضه شرائح كبيرة في المجتمع اللبناني بسبب عوائده السلبية على الاقتصاد المحلي، وتفاقم الفساد في مؤسسات الدولة والطبقة السياسية بصورة عامة.
وفي ظل تنامي الدور الفرنسي في لبنان أجرى وزير الدفاع اللبناني، يعقوب الصراف، زيارة رسمية إلى باريس، الخميس (8 مارس 2018)، للإعداد للمؤتمر الأول من بين ثلاثة مؤتمرات تستهدف مساعدة مختلف القطاعات اللبنانية.
ويعقد المؤتمر الأول في روما يوم 15 مارس الجاري، بهدف دعم الجيش اللبناني، في حين ينظم المؤتمر الثاني في 6 أبريل في باريس، لمساعدة القطاع الخاص، وتستضيف العاصمة البلجيكية بروكسل مؤتمراً يوم 25 من الشهر نفسه للتصدي لمشكلة اللاجئين، بحسب وكالة "رويترز".
وفي ظل تنامي دور فرنسا ودخولها على خط دعم الحكومة اللبنانية، يغيب دور الرياض تدريجياً عن هذا البلد، ضمن سلسلة تراجعات في سياستها الخارجية على المستوى الدولي والإقليمي، خلال العقود والسنوات الأخيرة، وذلك لعدم وجود حلفاء أو شركاء استراتيجيين، أو رؤية واضحة تساعد على تحقيق نفوذها إقليمياً ودولياً على غرار ما تعمل إيران على أقل تقدير في بلدان الشرق الأوسط.
واعتبر مراقبون أن دعم الرياض محاولة سعودية "متأخرة" لترجيح كفة الجيش اللبناني في وجه القوة العسكرية لحزب الله، وردة فعل على خلفية مقتل حليفها الوزير السابق محمد شطح، بعملية اغتيال وسط بيروت في ديسمبر عام 2013، حيث بنت الرياض آمالاً عريضة على الرجل الذي كان مستشاراً لسعد الحريري، وكان مرشحاً لرئاسة الحكومة، وممثلاً عن تيار "قوى 14 آذار" المدعوم سعودياً.
- أزمة سياسة وتراجع نفوذ
منذ نوفمبر الماضي يواجه لبنان أزمة سياسية معقدة بعدما أعلن الحريري استقالته بشكل مفاجئ من العاصمة السعودية، ليدخل البلاد في أتون الصراع الإقليمي بين السعودية وإيران. لكن الحريري عاد وتراجع عن استقالته بعد تدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وممارسته ضغوطاً على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي تقول تقارير صحفية إنه أجبر الرئيس الحريري على إعلان الاستقالة من الرياض.
وعلى إثر الاضطراب المستمر بسياستها الخارجية لم تعد علاقة القيادة السعودية الجديدة مع لبنان بنفس المستوى مثل ما كانت عليه عام 2017، ولم يعد لبنان راغباً في الاستثمار بمليارات الرياض، بحسب مسؤول فرنسي تحدث لوكالة "رويترز" الخميس (8 مارس 2018).
وأكد المسؤول (لم تذكر الوكالة اسمه) أن "بلاده ستقدم مساعدات للجيش اللبناني بقيمة 14 مليون يورو (17 مليون دولار) تشمل تدريباً وصواريخ مضادة للدبابات"، وأضاف: "نحن في مرحلة نقوم خلالها بتعزيز (موقف لبنان)".
والمساعدات الفرنسية هي جزء من جهود حثيثة تهدف إلى تقوية المؤسسات اللبنانية وتعزيز الأمن، مع تصاعد حدة التوتر السياسي داخلياً، حيث دأبت الرياض خلال السنوات الماضية على أداء دور سياسي على وتر الصراعات الطائفية بين التيارات اللبنانية المتناحرة؛ لا سيما حزب الله وتيار الحريري، وذلك على حساب المصالح اللبنانية.
وحصدت السعودية نتائج عكسية من هذه السياسة التي أدت إلى تراجع نفوذها أمام نفوذ إيران وحلفائها.
ويبدو أن السعودية قد استغلت حاجة الجيش اللبناني إلى العتاد الكافي لمواجهة الاضطرابات على حدود لبنان مع سوريا، وكذلك تحديث الأسلحة عن طريق الدعم الخارجي، لكن التصريحات السياسية بين البلدين تصاعدت خلال الأشهر الماضية وكادت أن تنقل الصراع في لبنان إلى المؤسسات الأمنية، التي تُعد واحدة من مؤسسات قليلة لم تنجر إلى الانقسامات الطائفية التي تعصف بلبنان.
لكن دخول فرنسا على الخط وضبط إيقاع أطراف الأزمة يبدو أنه ساهم بشكل كبير في تجاوز حدة الخلافات، لا سيما بعد تزعم محمد بن سلمان المشهد السياسي في المملكة، ومحاولته فرض وصايته على رئيس الحكومة اللبناني، بهدف تقليص نفوذ حزب الله وتحكمه في القرارات السياسية والأمنية للبلاد.
وقد اعتبر الحزب، في بيان سابق، موقف السعودية من الحريري "محاولة فاشلة في الشكل والمضمون".
- عجز واستجداء
المحلل السياسي والحقوقي اللبناني، طارق شندب، قال لـ"الخليج أونلاين": إن ما يجري في لبنان "شيء مربك ومبهم، لبنان يستجدي الدعم في المؤتمرات وهو مديون بـ95 مليار دولار".
وأضاف: "هذا العجز بسبب الفساد الحكومي حيث عقدت منذ اتفاق الطائف مئات المؤتمرات ودفع مليارات الدولارات بقروض مخفضة وميسرة وكلها ذهبت أدراج الفساد".
وتقوم الطبقة السياسية، وفق شندب، بالتغطية على الفساد بين جميع القطاعات الحكومية، منها الكهرباء والصحة والاتصالات، حتى بلغ العجز في الموازنة 95 مليار دولار، ثم يذهبون للمجتمع الدولي لاستجداء الدعم الذي يتحمل أعباءه الشعب اللبناني ونحن في غنى عنه.
وتابع المحلل: "الدعم الخليجي (السعودي والكويتي) للجيش اللبناني بمليارات الدولارات كان من دون فوائد ويأتي إلى كل مؤسسات الدولة، لكن الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، والمحسوبيات، وعدم قيام لجان التفتيش بدورها، أدى إلى تراكم العجز في الموازنة العامة".
كما أن هذه المؤتمرات- يضيف شندب- "محاولة من الفريق السياسي للتغطية عن عمليات الفساد وإرهاب مليشيات حزب الله، الذي يمنع الجيش اللبناني من القيام بمهامه".
وتساءل: "ما معنى أن يُدعم الجيش اللبناني بمليارت الدولارات كما دعمته دول عربية ولا تسمح مليشيات حزب الله له بالقيام بمهامه؟ ما معنى أن يدعم العالم الجيش في لبنان وخزينة الدولة تحت سيطرة حزب الله؟"، مؤكداً "هذه هي الحقيقة التي يحاول السياسيون في لبنان إخفاءها عن العالم".
من جهته، اعتبر المحلل السياسي اللبناني، أسعد بشارة، أن الحكومة الحالية "أساءت لنفسها وللبنان، وأسهم أداؤها في توتر العلاقات العربية اللبنانية من خلال التغطية على نفوذ ومشروع حزب الله على حساب مصلحة لبنان والشرعية الدولية والعربية".
وأكد بشارة أن "الفساد العميم والمستشري يطغى على أداء هذه الحكومة، وأصبحت الاتهامات بالسرقة والفساد بين الوزراء والمسؤولين على مسمع ومرأى من المجتمع اللبناني والدولي".
وعن توجه بلاده نحو المجتمع الدولي لتوفير الدعم المالي، يقول المحلل السياسي اللبناني: إن "التمويل الدولي المرتقب عن طريق المساهمة العربية، وهو عبارة عن قروض، وهو محاولة حكومية لإقفال عجز الموازنة مع الركود الاقتصادي الذي تمر به البلاد".
وأضاف: "هذا الطلب لا يتناسب مع أداء هذه الحكومة، ومن ثم فكل هذه الإجراءات تتناقض عملياً مع الدعم وهذا المشهد أصبح واضحاً لدى الجميع".
واعتبر بشارة أن الدعم السعودي للبنان "لم يكن مشروطاً على مدار العلاقات السعودية اللبنانية، إلا ما يصب بمصلحة لبنان"، مضيفاً: "الحكومة اللبنانية لم تبذل الجهود المناسبة لسحب الشرعية من حزب الله".
وتابع: "لذلك سحبت الرياض منحتها من لبنان؛ لأن مبدأ وجود سلاحين في الدولة يسبب مشاكل بين الحكومة اللبنانية والمجتمع العربي والدولي، لذلك لا بد أن يكون السلاح حصراً بيد الجيش وقوى الأمن".
ويرى بشارة أن المجتمع الدولي "قد يسحب الدعم من لبنان أيضاً أسوة بباقي البلدان العربية بسبب سيطرة مليشيات حزب الله على خزينة الدولة".
وقال: "عندما يكون الجيش اللبناني غير قادر على الدفاع عن لبنان سيغير المجتمع الدولي رأيه بخصوص الدعم"، كما هو الحال في الدعم السابق، مضيفاً أن "هدف الدعم الدولي المرتقب يمثل أدنى حد من الدعم المالي المطلوب للحفاظ على لبنان من الفوضى الداخلية".