معرض القاهرة للكتاب .. تظاهرة ثقافية تتراجع على وقع أزمات مصر

معرض القاهرة للكتاب .. تظاهرة ثقافية تتراجع على وقع أزمات مصر
معرض القاهرة للكتاب .. تظاهرة ثقافية تتراجع على وقع أزمات مصر

يعتبر معرض القاهرة الدولي للكتاب واحداً من أكبر وأهم المحافل الثقافية التي تجمع الكتّاب والمثقفين من أنحاء الوطن العربي، وهو بمنزلة احتفالية ثقافية ينتظرها محبو الثقافة من المصريين والعرب من عام لآخر، غير أن حالة التراجع التي طالت كثيراً من جوانب الحياة في مصر انعكست على دورة المعرض الحالية رغم ما فيها من إيجابيات.


وفي السابع والعشرين من يناير الماضي، انطلقت الدورة التاسعة والأربعون، التي ستمتد حتى العاشر من فبراير الجاري. وقد اختيرت دولة الجزائر ضيف شرف لهذه الدورة، التي حملت شعار "القوى الناعمة.. كيف؟"، واختير الكاتب المصري الراحل عبد الرحمن الشرقاوي "شخصية العام".

زيارة سريعة للمعرض الذي تستضيفه أرض المعارض بمدينة نصر شرقي العاصمة المصرية، تؤكد أن لا شيء في هذه الدورة كما كان في دورات سابقة، فلا "منتدى الشعراء" هو نفسه الذي كان قبل سنوات، ولا زخم الفعاليات هو نفس الزخم، وحتى الشخصيات التي تسير في طرقاته ليست هي نفسها التي كانت تملأ نفس الطرقات، وإن كان هناك من يرى أموراً إيجابية لا يمكن غض الطرف عنها.

وطيلة عقود، كان معرض القاهرة الدولي للكتاب، ملتقى للشعراء الكبار والمثقفين المعروفين، وساحة للاستماع والنقاش، فضلاً عن أنه كان أشبه بتظاهرة سنوية يصدح فيها المثقفون والشعراء بنقدهم، ويؤكدون تمسكهم بحدّ معين من حرية التعبير، فضلاً عن إعلان دعمهم للقضايا الوطنية والقومية.

وإلى جانب غياب روح المعرض التي اشتهر بها على مر تاريخه الممتد لنصف قرن، فإن الدورة الحالية تنم عن محاولة واضحة لتسطيح فكرة المعرض وتحويله إلى متجر كبير لبيع كتب وألعاب الأطفال.

طابور طويل يقف فيه الزائرون قبل أن يتمكنوا من الدخول بعد المرور ببوابات تفتيش إلكترونية، ليصطدموا بحقيقة أن غالبية النشاطات التي جاؤوا من أجلها من محافظات أو من دول أخرى، لم تعد موجودة، فالمعرض هذا العام تجاهل أو قلّص العديد من الأمور التي كان هؤلاء يأتون من أجلها فرادى وجماعات.

حالة الإهمال الكبيرة والتي تبدو متعمدة، يؤكدها غضب الوفد العراقي الذي صدمه خواء جناح بلاده من الكتب، ما دفع أعضاء الوفد لمطالبة حكومة بلادهم بالوقوف كثيراً أمام هذا "الإهمال للعراق وتاريخه ومنجزه الأدبي والمعرفي".

- كل شيء غائب
حالة الإهمال هذه لم تقتصر على دولة العراق، لكنها امتدت إلى صاحبة المعرض نفسها (مصر)، التي عصفت إدارة المعرض بغالبية الفعاليات التي كانت تعبر عن شخصيتها وعن ثقافتها، وجعلتها محصورة في خيم صغيرة عشوائية المظهر والترتيب، أقرب ما تكون لخيم الباعة الجائلين.

العارفون بمعرض القاهرة للكتاب يعرفون ما هو "سوق عكاظ"، الذي كان ملتقى الشعراء ومفرخة للمواهب الجديدة ونقطة التقاء كبار الشعراء بصغارهم، غير أن الدورة الحالية استعاضت عن خيمة عكاظ التي كانت تتوسط المعرض وتقام على مساحة تتسع لنحو ألف شخص، بخيمة صغيرة جداً وغير منظمة وموجودة في ركن قصي لا يعرفه أحد.

ومع ذلك، فإن هذه الخيمة الصغيرة النائية محفوفة برجال الأمن. وإن سألت الشباب المتطوعين المسؤولين عن إرشاد الحضور، فإنهم لا يعرفونه، حتى إن بعضهم ينطقها (سوق عوكاز).

قال جمال فتحي، إن روح المعرض غائبة تماماً هذا العام، وكذا الفعاليات التي تنحصر تقريباً في الأسماء الكبيرة. وأضاف: "الكتب غالية جداً، فيما عدا كتب الهيئة العامة للكتاب. لا يوجد إقبال مثل العام الماضي. حتى المخيمات فارغة".

وعلى ذكر مطبوعات الهيئة العامة للكتاب (الحكومية)، فقد أثارت صحيفة "اليوم السابع" المصرية الحديث عن حجم الإهمال الذي يسيطر على هذه الهيئة، ونشرت صوراً لأكوام من الكتب الملقاة على الأرض، وكأنها أكوام للقمامة.

أكثر ما لفت النظر في المعرض هذا العام هو التركيز الكبير على متاجر بيع كتب ولعب الأطفال التي تكاد تكون مسيطرة على عمليات البيع، إذ تصطف الأمهات باحثات عن الكتب التعليمية والترفيهية والألعاب، بعدما أصبح شراء الكتب الثقافية أو السياسية يفوق قدرة معظم الأسر.

ويشهد المعرض هذا العام ارتفاعاً كبيراً في أسعار الكتب وهو أمر ينعكس سلباً على عمليات الشراء، وإن كان قطاع كبير من الشباب يصطف أمام منتجات كتّاب بعينهم، وفي مقدمتهم الروائيان أحمد خالد توفيق وأحمد مراد، اللذان يحققان مبيعات كبيرة في كل دورة.

- إهمال شديد
أحد العاملين بوزارة الثقافة المصرية انتقد العديد من الأمور المتعلقة بنشاط الطفل في الدورة الحالية، لافتاً إلى أن ثمة مشاهد كثيرة في المعرض تعكس مساحة كبيرة من عدم إدراك القائمين على التنظيم بأهمية الطفل.

بعض هذه المشاهد التي أشار إليها المصدر الذي طلب عدم الكشف عن هويته، تتمثل في أن الأطفال كانوا يرسمون على الرصيف (خارج الجناح) وهم جالسون على الجير الأبيض (مادة من مواد البناء وتتحول لمادة حارقة إذا لامست المياه)، هذا إلى جانب وجود صورة (من مسلسل الأسطورة) للفنان المصري محمد رمضان يظهر فيها وهو يمسك بسيجارة، بحسب المتحدث.

هذه الصورة، برأي المتحدث، تعكس غياباً تاماً لإدراك ما يمكن أن تتركه صورة كهذه من أثر في نفس الطفل، الذي ربما يتخذ من "الأسطورة" قدوة له.

وكان مسلسل الأسطورة، الذي أذيع في رمضان 2016، لاقى انتقادات كبيرة، رغم نجاحه الساحق، بسبب ما اعتبره منتقدوه تحريضاً على سوء السلوك، وتغذية للعنف، وتقديماً للقتل والسرقة وكأنهما الطريق الطبيعي للثراء.

بعض اللوحات في جناح الأطفال، يضيف المصدر، كان مكتوباً عليها "هوبي نيو ييير"، بدلاً من "هابي نيو يير"، وهو أمر يعكس واقع القائمين على هذه الأمور.

ضف إلى ذلك غياب الحضور الأفريقي الرسمي والشعبي، وهو أمر يقلص من دور الثقافة في تقوية هذه العلاقات التي تسعى القيادة السياسية لإعادتها إلى مسارها الطبيعي بغية حل خلافات تتعلق بمصير هذا الشعب، وفي مقدمتها قضية المياه، كما يقول المصدر.

ويتابع: "كان يجب أن تكون هناك مشاركة كبيرة لوفود وممثلي هذه الدول في مصر من أجل إعادة ترميم العلاقات بين مصر ومحيطها الأفريقي بما يخدم عنوان المعرض (القوة الناعمة)".

وكان هيثم الحاج، رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، قال في يوليو 2017، إن الهيئة حريصة على استضافة العديد من الدول الأفريقية في الدورة الـ 49 للمعرض. لكن الواقع يقول إن دولتين فقط شاركتا.

ولفت المتحدث إلى أن ما حدث في جناح العراق "يؤكد ضعف القائمين على إدارة المعرض، وعدم تفهمهم لمعنى أن تكون الدورة الحالية (عربية-عربية)، وهو ما تجلى في هذا الإهمال الجسيم لدولة بحجم العراق".

وعن تهميش الفعاليات التي كانت عنواناً للمعرض في سنوات سابقة، يقول المصدر: "هذا شيء لا يمكن إنكاره، يكفي أن شاعراً بحجم ومكانة أحمد عبد المعطي حجازي، انسحب من ندوته اعتراضاً على هذا التهميش وعدم الاهتمام بهذه الفعاليات".

- دورة موفقة!
في المقابل، هناك من يعتقد أن الدورة الحالية للمعرض لم تختلف عن سابقاتها من حيث الاهتمام والنشاطات، وإن اعترفوا أيضاً بوجود سلبيات يقولون إنها تعود بالأساس إلى المجتمع ككل.

أستاذ النقد الأدبي الدكتور شريف الجيار، يرى أن الدورة الحالية "تميزت بأنها استضافت الشقيقة الجزائر كضيف شرف للمعرض. فضلاً عن أنها طرحت القوى الناعمة لمصر، وهذان المحوران مهمان؛ لأن المعرض يؤكد تمسك الخطاب الثقافي المصري بعروبته وتواصله مع الأشقاء العرب والأفارقة"، مضيفاً: "كنت أتمنى أن تزيد المشاركة الأفريقية عما هي عليه".

و لفت الجيار، وهو مدير سابق للنشر في الهيئة العامة للكتاب، إلى أن هذه الدورة جددت تأكيد رغبة مصر في إعادة جسور التواصل مع أشقائها العرب والأفارقة، كما أنها أكدت متانة الروابط الثقافية بينها وبين محيطها العربي تحديداً.

الأديب المصري سميل الفيل، أيضاً، يرى أن الدورة الحالية للمعرض "موفقة"؛ حيث إنها اتجهت لتقديم نشاط ثقافي وفني مواكب لفاعليات المعرض، بالإضافة إلى نشر الهيئات الرسمية والخاصة مجموعة هائلة من الكتابات.

وقال الفيل، وهو حاصل على جائزة الدولة التشجيعية للعام 2017: "لاحظت وجوداً واضحاً للشباب الذين يتقدمون بكتاباتهم لأول مرة"، مضيفاً: "ما زالت هناك مشكلة أساسية قائمة وهي تتمثل في انفضاض أغلب المثقفين عن الندوات الجادة، وتفضيلهم الجلوس على المقاهي، وهذا حقهم. الكتّاب ينفرون من أي نشاط رسمي وكل منهم يعرف الندوة التي سيذهب إليها".

وتابع: "اختيار الجزائر كضيف شرف للمعرض كان موفقاً، فما تتلفه السياسة يصلحه الأدب. كذلك وجود مشروع الشباب المتطوع لخدمة الزوار أمر جميل".

ولفت الفيل إلى أن حفلات التوقيع "تطغى على ما عداها، وهذا دليل على أن الكتاب ما زال يبحث عن جمهوره، وربما كان ارتفاع أسعار الكتب عقبة تحول دون زيادة رقعة المستفيدين من المعرض الذي يعتبر الثاني على العالم".

كما أن معرض القاهرة للكتاب هو النشاط الوحيد الذي ينتظره الناس كل عام رغم كل السلبيات، كما يقول الأديب المصري، مضيفاً: "أتصور أنها سلبيات مجتمعنا تنعكس على المعرض بشكل ما. كما أن أسعار الخدمات مرتفعة ربما لتعويض ما فقدوه في سنوات سابقة".