حيدر خضير الروبيعي يكتب: الجغرافيا والحياد إلى أين؟!

حيدر خضير الروبيعي يكتب: الجغرافيا والحياد إلى أين؟!

كان الرئيس الفرنسي السابق "شارل ديجول" يقول: "إذا أردت الحديث عن السياسة فلابد إذن أن تمسك بالخريطة وتنظر فيها بإمعان"، وهي كلمات في غاية الدقة إذا ما وضعت في خلفيتنا ونحن نتناول كل ما يمر به عالمنا اليوم من أحداث، تحكمها بل وتتحكم فيها مختلف عوامل الجغرافيا والطبيعيةوثرواتها وتوازناتها، وهي العوامل التي سبق وأن فجرت -ربما- كل ما شهده العالم من حروب وصراعات عبر القرون، كما ستفجر المزيد بلا شك في مستقبل الأيام!


هل تبدو تلك الكلمات متشائمة أم واقعية؟

في الحقيقة إنها الإثنين معاً، فهي كلمات واقعية متشائمة، فالواقع الدولي صار محملاً بمشكلات تتضاعف أحجامها بسرعة كبيرة، كتضاعف كرة الثلج التي تتدحرج بدورها في اتجاه الهاوية والمواجهة، والسبب بلا شك هو نفسه "الجغرافيا"، ورغبة كل أطراف اللعبة السياسة حول العالم في التمدد بمختلف معانيه المادية والمعنوية، وفي مقدمتها توسيع وبسط النفوذ..

وبالعودة لنصيحة "ديجول"، يبدو أنها صعبة التحقيق في الوقت الحالي، فقد لا تصلح الخارطة الحالية للحديث في السياسة، فثمة إعادة تشكيل لملامحها وتوازناتها كما لم يحدث منذ عقود..

فها هو الصراع (الأمريكي-الروسي) على أوكرانيا، يتدحرج في كل الاتجاهات ليطال مختلف أركان العالم، وبينما تحاول الولايات المتحدة الأمريكية تدعيم أحلاف وبناء أخرى جديدة، أو حتى مهادنة بعض أعدائها والاستغناء عن بعض أصدقائها وإهمال آخرين، في سبيل محاصرة روسيا وحلفاء الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" جغرافياً وعسكرياً واقتصادياً، تشد واشنطن في طريقها بعض القوى المستكينة وليست الخاملة، وسواء كان ذلك عن قصد أو حتى بدون قصد، فالنتيجة تبدو واحدة وهي: "الاشتعال"!

وقد تابعنا قبل أيام مقدمات اشتعال جديدة في شمال خارطة العالم، بحدوث تغيرات جيوسياسية دراماتيكية كانت مستبعدة حتى وقت قريب، وربما يكون لها آثاراً واسعة ليس في منطقتها الجغرافية فحسب، بل قد تمتد لتشعل ذلك الفتيل الذي يخشاه الجميع والمتمثل في اعلان حرب عالمية ثالثة، يتم فيها استخدام كل شيء لتدمير كل شيء..

تابعنا إعلان كل من فنلندا والسويد انتهاء حالة الحياد التاريخي الذي عاشتاه لعقود بشكل رسمي، بتقديم طلبي للحصول على عضوية حلف "الناتو" المواجه في الأساس لروسيا، والسبب بالتأكيد قد تختصره الجغرافيا والحدود، وذلك الخوف من قادم الصراع..

وها هي الصين العملاق الرزين، تخرج أخيراً لتلوح كما لم تفعل من قبل بالبندقية في وجه الولايات المتحدة الأمريكية، على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، الذي لم يكتفي بالقول ان الولايات المتحدة الأمريكية ستدفع ثمناً "لا يطاق" إذا واصلت السير في الطريق الخطأ فيما يتعلق بقضية تايوان، ولكنه نصح الإدارة الأمريكية بالاستماع إلى أغنية صينية قديمة تقول "عندما يأتي عدو يرحب به بالبندقية"!

وها هي كوريا الشمالية تدخل على خط المشاكسة، واليابان تسير على خطى الحلفاء متوجسة ومستعدة ولكنها متحفظة، وأستراليا بالتأكيد في مربع الحليف الأمريكي، والهند تبدو مع مصالحها، كما هو الحال في العالم العربي والشرق الأوسط، وجميعهم تحكمهم توازنات في غاية التعقيد، في وقت ربما تسعى فيه القوى الكبرى لخروج الجميع من حالة الحياد إلى حالة التحيز والانخراط ومن ثم الاشتباك، التي يبدو أنها خطوة قادمة.. قادمة مهما تملص منها البعض!