مقال بقلم د/ ياسر حسان: هل على صانعي الفن تثقيف جمهورهم أم الترفيه عنهم؟
خاص سياسي
أعترف أنني أخطأت حين تجنبت الحديث عن الجدل الثائر منذ أشهر حول مسلسل "أحمس"، حيث كنت أرى وقتها أنه عمل فني وليس تاريخيًا، ومن هذا المنطلق يجوز فيه التغيير والتحويل. وكثير من الأفلام المصرية والعالمية فعلت ذلك فلم يكن هناك علاقة لفيلم "الملك العنكبوت" بأي حقائق في التاريخ المصري القديم.. حدث بعد ذلك بعدة أشهر أن قرأت مقالاً حول الأخطاء التاريخية لفيلم "مملكة الجنة" وتوسعت في القراءة لأجد عشرات المقالات عن أخطاء تاريخية في كثير من الأعمال الفنية، لكن الجدل الثائر حالياً حول مسرحية "المومس الفاضلة" أثار فضولي من جديد، ولا أعرف هل الجدل حول كونها "مومساً" أم "فاضلة".
في الواقع كما في السينما قد يتحول الإنسان في لحظات من أقصى درجات الفضيلة إلى أخس درجات القذارة، وقد يتحول آخر من أدنى درجات القذارة إلى قمم الفضيلة، والفاصل بين الخير والشر عند الإنسان خيط رفيع.
ليس سرًّا أن الأفلام تساهم في تشكيل ثقافة الشعوب، وتشكل الأفلام أيضًا التاريخ وتصورنا له بطرق قد لا نتوقعها، وتساعد أيضاً في توقع المستقبل مثل أفلام الخيال العلمي، لكن يظل الفن فناً يقبل التغيير والتطوير بل والخيال أيضاً، ويظل العمل الوثائقي موجوداً بجوار الكتاب ليسرد التاريخ المجرد من الهوى.
تعرض فيلم ريدلي سكوت الملحمي "مملكة الجنة" -الذي أنتج عام 2005 حول سقوط القدس بيد صلاح الدين في عام 1187- لانتقادات واسعة النطاق من قبل المؤرخين بسبب افتقاره للدقة التاريخية، حتى عندما كان الفيلم لا يزال قيد الإنتاج وصفه مؤرخ كامبريدج جوناثان (رايلي سميث) بأنه "هراء" و "نسخة أسامة بن لادن من التاريخ"، بينما كتب الناقد مايكل هاج أن "سكوت يراجع التاريخ بالجملة أو بالأحرى يختلقه، ولا يوجد شيء له علاقة كبيرة بالحقيقة التاريخية".
ومهما كان ما يعتقده المؤرخون فقد حاز الفيلم على إشادة من النقاد، ووصفته مجلة رولينج ستون الأمريكية الشهيرة بأن "سكوت قدم ترفيهًا مثيرًا". وباع الفيلم أكثر من 211 مليون دولار في شباك التذاكر. ووصف مانوهلا دارجيس -الناقد في صحيفة نيويورك تايمز- الفيلم بأنه "قصة عادلة ومنصفة ظاهريًا لواحد من أقل الفصول إنصافًا في تاريخ البشرية".
في مجمع الأفلام التي خالفت التاريخ يقف فيلم JFK للمخرج أوليفر ستون على القمة وذلك بسبب أخطائه وتأثير هذه الأخطاء. فقد ساعد هذا الفيلم في أخذ المفاهيم الخاطئة والأكاذيب الصريحة حول اغتيال كينيدي، ولا يخلو فيلم "أبوكاليبتو" الذي أنتجه ميل جيبسون عام (2006) من النقد. تلقى Apocalypto النقد رغم إشادة النقاد بجيبسون بسبب استخدم لغة المايا الفعلية في الفيلم، مع إضافة ترجمات. كل هذا كان رائعًا وما عدا ذلك فقد خلا الفيلم من الدقة التاريخية في كل تفاصيله.
يحكي الفيلم ظاهريًا عن مملكة المايا (ومن هنا جاءت اللغة)، لكن الأحداث المعروضة في الفيلم تتماشى بشكل أكثر دقة مع مملكة الأزتك اللاحقة، بينما مارس الأزتك التضحية البشرية المصورة في الفيلم ولم تفعل المايا ذلك فقد كانوا في معظمهم شعوباً مسالمة. لكن الخطأ التاريخي الأكثر فظاعة هو وصول الغزاة الأسبان في نهاية الفيلم.. في الواقع لم يظهر الأسبان إلا بعد 400 عام تقريبًا من نهاية إمبراطورية المايا.
ولا يخلو فيلم بيرل هاربور عام (2001) من أخطاء تاريخية كثيرة بحيث لا يمكن سردها.. من تضخيم عدد الطائرات اليابانية التي تم إسقاطها في ذلك اليوم من 3 إلى أكثر من 20، إلى إظهار الطيارين اليابانيين وهم يستهدفون المستشفيات أثناء الهجوم ولم يحدث ذلك في الحقيقة، إلى وجود طيارين مقاتلين يحلقون بطائرات قاذفة في غارة على طوكيو، هذا الفيلم هو في الأساس محض خيال كامل. والصدمة الكبرى قد تكون في فيلم "القلب الشجاع" الذي أنتج عام (1995) فقائمة التفاصيل الخاطئة في الفيلم من الناحية التاريخية طويلة جدًا بما في ذلك التنورات الإسكتلندية الشهيرة التي ظهرت في الفيلم، كما أن الإسكتلنديين لم يرسموا أنفسهم باللون الأزرق.
تم تصوير "روبرت البروس" بالخطأً على أنه ضعيف وخائن بينما في الواقع لم يخن ويليام والاس، بل هو الذي حصل على لقب "القلب الشجاع" وليس ولاس. الخطأ الأكثر إثارة للضحك هو العلاقة الرومانسية بين والاس وزوجة الملك إدوارد الثاني إيزابيلا، لأنهما في وقت ارتباطهما في الفيلم كانت إيزابيلا تبلغ من العمر ثلاث سنوات فقط، وكانت في التاسعة من عمرها فقط عندما توفي والاس، وغير حقيقي أن وليام والاس والد الملك إدوارد الثالث.
رغم كل ما سبق من أخطاء حققت كل هذه الأفلام نجاحاً كبيراً عند عرضها، لأن الدقة التاريخية مستحيلة بسبب طبيعة تفاصيل إنتاج الفيلم مثل اختلاف أداء الممثلين والأزياء والمجموعات؛ لأن هناك حدودًا للطريقة التي يمكن بها للأفلام التاريخية أن تخلق قصة ترضي المؤرخين.
وسيظل على صانعي الأفلام إعادة صياغة حلقة من التاريخ لتصبح قصة قابلة للتسويق تكون جذابة للجمهور وتوفر عائدًا ماليًا للمستثمرين. والجمهور يستطيع التمييز بين الحقيقة والخيال.
تشير دراستان -إحداهما من الولايات المتحدة والأخرى من أستراليا- إلى أن الناس يميلون إلى الوثوق بالكتب وعمل المؤرخين الأكاديميين والمتاحف أكثر من ميلهم إلى تصديق الأفلام أو البرامج التلفزيونية؛ لذلك لا يتوقع حتى الجمهور أن يقوم صانعو الأفلام بتثقيفهم، وتُظهر الأرقام أن الخيال التاريخي يكون مربحًا عندما يكون الفيلم تجربة ممتعة وليس إعادة سرد دقيقة. الفيلم التاريخي ليس درسًا في التاريخ، ولكنه خيال تاريخي يوفر مستوى من الأصالة.
وإذا كان الجمهور لا يتوقع دقة بنسبة 100٪، فليس في حاجة لعناء مقارنة هذه الروايات الخيالية بأعمال علماء التاريخ. الأعمال التاريخية الجيدة يمكن فقط أن تلهم الناس لاكتشاف المزيد حول الفترة التي يتم تصويرها، ومقارنة الاختلاف بين الحقيقة التاريخية والخيال السينمائي.
إذن مَن على حق؟ المؤرخون المحترفون، أم النقاد والجمهور؟
الإجابة تتلخص في أن نقرر نحن ما إذا كان يتعين على صانعي الفن تثقيف جمهورهم أم الترفيه عنهم