الخليتان الأوليان مختلفتان .. هذه هي أول طفرة وراثية تصيب كل الإنسان

لأول مرة، تمكن العلماء من إمساك لمحة عن أقدم الطفرات الجينية التي أصابت الخلايا البشرية خلال عملية التطور التي حدثت للإنسان منذ أن يبدأ كمجموعة من الخلايا الجنينية المحدودة.


فباستخدام تسلسل الجينوم البشري كله (إجمالي الجينات الموجودة في الإنسان)، تمكن العلماء من العودة بالوقت في عينات الخلايا من البالغين، ليكتشفوا ما حدث في الجينوم عندما كان هذا الشخص البالغ لا يزال في طور الأجنة المجهرية. واتضح من ذلك أن خليتينا الاثنتين الأوليَيْن تساهمان في تطورنا بطرق مختلفة جدًا.

الطفرات
ويقصد بالطفرة في علم الأحياء أي تغير يصيب المعلومات الجينية، ويقصد بالأخيرة المعلومات الوراثية المشفرة في تسلسلات الحمض النووي والكروموسومات. وبالتالي يصيب الحمض النووي تغيرات معينة تؤدي إلى إضافة شفرات وراثية جديدة أو حذف شفرات أو تغير في شفرات، وهو ما يعني اختفاء أو ظهور صفات جديدة.

وتأتي الطفرات في شكلين، تلك الطفرات الوراثية التي نحصل عليها من والدينا، والتي يمكن العثور عليها في كل خلية تقريبًا من الجسم. والطفرات المكتسبة (أو الجسدية) التي يمكن أن تحدث في أي مرحلة من مراحل حياة الشخص، بما في ذلك تلك الأيام الأولى عندما يبدأ الجنين في الانقسام إلى خلايا متعددة.

الطفرات الجسدية لا تسبب بالضرورة حدوث مشاكل، ولكنها يمكن أن تؤدي في بعض الأحيان إلى السرطان وأمراض أخرى. كما أنها لا تتواجد بالضرورة في كل خلية (وهذا ما يسمى الفسيفساء). وحتى الآن، لدينا فهم غامض إلى حد ما بخصوص الطفرات الجسدية التي تحدث خلال المراحل الأولى من الحياة، لأننا لا يمكن أن نشاهد وقوعها بينما تحدث في الوقت الحقيقي.

ولكن الآن اكتشف الباحثون طريقة لتعقب هذه الطفرات مرة أخرى إلى أول ظهور سابق حدث لها. يقول يونج سيوك جو، عالم الوراثة من معهد ويلكوم ترست سانجر في المملكة المتحدة والمعهد الكوري المتقدم للعلوم والتكنولوجيا، إن هذه هي المرة الأولى التي يرى فيها أي شخص المكان الذي ظهرت فيه الطفرات في الفترة المبكرة جدًا من التطور البشري، كما هو الحال في العثور على إبرة في كومة قش.

وأضاف "هناك مجرد حفنة صغيرة من هذه الأنواع من الطفرات، مقارنة مع الملايين من الاختلافات الجينية الوراثية، وإيجاد هذه الأنواع يسمح لنا بتتبع ما حدث أثناء عملية التطور الجنيني للجنس البشري".

خليتان في اتجاهين مختلفين
ولإيجاد هذه الطفرات، قام الفريق بتحليل عينات الدم والأنسجة من 279 شخصًا مصابين بسرطان الثدي. وسمح استخدام عينات من مرضى السرطان للفريق البحثي باختبار ما إذا كانت الطفرات موجودة في كل من الدم الطبيعي والأنسجة وفي عينات الورم الذي جرت إزالته جراحيًا.

للعلم، فإن تطور سرطان الثدي يبدأ من خلية واحدة فقط تتكاثر بسرعة كبيرة، وبالتالي فإن الطفرة الجسدية التي أدت لحدوث هذا السرطان إما أن تكون موجودة في كل خلية من خلايا الورم، أو أنها لا توجد على الإطلاق، مما يعطي فكرة لأصولها المحتملة. ومن خلال تتبع ومقارنة انتشار الطفرات المختلفة في هذه العينات من الأنسجة المختلفة، تحقق العلماء من عدد ضخم من الطفرات التي يصل عددها إلى 163 طفرة، التي كان يجب أن تحدث داخل الخلايا الأولى خلال عملية الانقسام من التطور الجنيني للأشخاص.

هذا الأمر أعطاهم فكرة فريدة عن كيفية تفاعل الخلايا الجنينية المبكرة. لكن هذا ليس كل شيء، فقد كشف تحليل إحصائي أنه عندما تنقسم البويضة المخصبة لأول مرة، تساهم هاتان الخليتان في الواقع في بناء مواد لبقية الجسم بنسب مختلفة. ويبدو أن واحدة من أول اثنتين من الخلايا التي نتكون منها نحن البشر تمنحنا حوالي 70% من أنسجة الجسم الخاصة بنا، في حين أن الخلية الأخرى تعطينا الـ30% المتبقية.

يقول إنيغو مارتينكورينا، عالم الأحياء الجزيئي من معهد سانجر «لقد حددنا الإسهام النسبي للخلايا الجنينية الأولى في تجمع خلايا الدم في البالغين ووجدنا أن هناك خلية واحدة مهيمنة – أدت إلى 70% من خلايا الدم – وخلية أخرى أقل في التأثير والمساهمة». وأضاف أن هذا الاكتشاف يفتح نافذة غير مسبوقة في اتجاه المراحل الأولى للتطور البشري والتنمية البشرية.

هذا أمر مثير، لأن وجود هذه النافذة سوف يتيح لنا اكتشاف المزيد عن كيفية تطور البشر واكتساب الطفرات المختلفة التي تأتينا في مراحل عمرية مختلفة. وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من الطفرات تكون عشوائية وغير ضارة، فإنه أحيانًا يمكن أن تؤثر على الجينات الهامة، مما يتسبب في اضطراب النمو أو الإصابة بالأمراض.

يقول الباحث الرئيسي مايك ستراتون، مدير معهد ويلكوم ترست سانجر «في الأساس، فإن الطفرات هي نتائج أثرية للتطور الجنيني تركت في أنسجة البالغين، لذلك إذا تمكنا من العثور عليها وتفسيرها، يمكننا فهم علم الأجنة البشري بشكل أفضل». ويأمل الباحثون أن اكتشافهم هو مجرد الخطوة الأولى من العديد من الخطوات التي من شأنها أن تساعدنا على فهم أفضل لما يحدث للبشر في الأيام الأولى، عندما نكون نحن جميعًا لسنا أكثر من مجرد مجموعة من الخلايا.

أسباب حدوث الطفرات
بشكل عام، من الصعب وقوع طفرات جديدة حاليًا، كما أن غالبية الطفرات التي توصل إليها العلماء وحدثت سابقًا وقعت من تلقاء نفسها، وهي ما يطلق عليها الطفرات التلقائية. لكن هناك بعض العوامل التي تقوم بحث المحتوى الجيني على إحداث طفرات جديدة فيه، ويطلق عليها العوامل المطفرة، أي التي تسبب وقوع الطفرات، والتي يطلق عليها اسم الطفرات المحدثة.

ويمكن أن تنتج الطفرات نتيجة عوامل مثل الإصابة بمرض فيروسي أو ما يطلق عليه الجينات القافزة (وهي جينات داخل الحمض النووي يمكنها التحرك إلى مواقع مختلفة داخل الجينوم الخلوي لخلية بعينها، وعملية التنقل هذه يمكن أن تؤدي لوقوع طفرة)، أو التعرض لمواد كيميائية مسببة للطفرات (مثل المواد المسرطنة والسوبرأكسيد والبرومين وغيرها)، أو التعرض للأشعة (مثل أشعة إكس وأشعة جاما وأشعة ألفا).

من المسببات أيضًا تلك الأخطاء التي تحدث خلال عملية تضاعف الـ«DNA» أو عملية الانتصاف عند إنتاج الخلايا المشيجية (الخلايا التناسلية من حيوانات منوية في الرجال أو بويضات في النساء).