باب المندب .. القوة الجغرافية التي جلبت الصراع العسكري لليمن
أعاد استهداف ناقلتي نفط سعوديتين لدى مرورهما من مضيق "باب المندب"، يوم الأربعاء (25 يوليو)، من قِبل مليشيا الحوثيين، الأنظار إلى هذا المضيق الاستراتيجي في حركة الملاحة حول العالم.
فقد أعلن وزير الطاقة السعودي، خالد الفالح، مساء الأربعاء، أن أكبر مصدّر للنفط في العالم "سيُوقف بشكل مؤقت" كل شحنات الخام التي تمر في مضيق "باب المندب"، بعد أن تعرضت ناقلتان نفطيتان سعوديتان، في وقت سابق، للهجوم من جانب جماعة الحوثي المتحالفة مع إيران.
وأضاف "الفالح"، قائلاً في بيان أرسلته وزارته، أن "المملكة ستعلِّق جميع شحنات النفط الخام التي تمر عبر مضيق باب المندب، إلى أن تصبح الملاحة خلال المضيق آمنة، وذلك بشكل فوري ومؤقت".
- باب المندب
الموقع الجغرافي الاستراتيجي لمضيق "باب المندب" أوجد له أهمية تجارية واقتصادية قصوى، جلبت بدورها حساسية عسكرية لهذا الممرّ المائي العالمي لمختلف القوى الدولية والإقليمية، في حين تتباين الجدوى للبلدين اللذين يقع المضيق في نطاقهما الجغرافي؛ وهما اليمن وجيبوتي، وعلى قرب شديد منهما إريتريا.
أصبح مضيق "باب المندب" أحد أهم الممرات المائية في العالم بعد إنشاء قناة السويس عام 1869، وأصبح يربط بينها وبين مضيق هرمز نقطة وصل لطريق التجارة العالمي، الممتدّ من البحر الأبيض المتوسط مروراً بالبحر الأحمر، وخليج عدن والمحيط الهندي والخليج العربي.
ويمتاز الممرّ بعرض وعمق مناسبين لمرور كل السفن وناقلات النفط على مسارين متعاكسين متباعدين؛ حيث يبلغ عرضه 30 كم، وعمقه 100-200م.
ويعدّ "باب المندب" أكثر ممرّ تسير فيه السفن التجارية وناقلات النفط؛ حيث يستحوذ على 7% من الملاحة العالمية، و13% من إنتاج النفط العالمي (3.8 ملايين برميل نفط في اليوم عام 2013)، و21 ألف سفينة وناقلة تمرّ في الاتجاهين، بواقع 57 سفينة يومياً، وتعبر منه نحو 12 مليون حاوية سنوياً.
لكن أهمية "باب المندب" مرتبطة ببقاء قناة السويس أولاً، ومضيق هرمز ثانياً، مفتوحين للملاحة أمام ناقلات النفط خاصة؛ لأن أي تهديد لأي منها (باب المندب، هرمز، السويس) سيحوّل السفن إلى طريق رأس الرجاء الصالح.
- أفضلية يمنية
الممرّ، الذي يبدأ من "رأس منهالي" باليمن وصولاً إلى "رأس سيان" في جيبوتي، يشترك في حدوده البحرية مع كل من إريتريا وجيبوتي واليمن، الذي يمتلك الأفضلية الاستراتيجية للسيطرة على المضيق؛ بفعل امتلاكه جزيرة ميون "بريم"، التي تبلغ مساحتها 13 كم2، وفيها ميناء طبيعي بطرفها الجنوبي الغربي، وهو ما عرّضها لاحتلال برتغالي وفرنسي وبريطاني.
أمام أفضليّة اليمن للسيطرة على المضيق والاستفادة منه، يبرز سؤال: هل استفاد اليمن من "باب المندب" اقتصادياً وتجارياً بحكم أهميته الكبيرة للعالم أجمع؟ أم أنه تحوّل من نعمة إلى نقمة؛ حيث حوّل اليمن إلى ساحة صراع إقليمي ودولي بسبب موقعه على المضيق؟
الباحث الاقتصادي هشام البكيري أكّد أن اليمن لم يستفد من الأهمية الاقتصادية الكبرى لـ"باب المندب"، ولم ترِد إلى الخزانة العامة للدولة اليمنية أي عائدات من هذا المضيق.
وقال البكيري: إنه "طوال فترات حكم الرئيس المخلوع صالح لم تنشأ أي مشاريع تنموية تهيّئ لمشاريع استثمارية كبرى على طول الساحل الغربي المحاذي لـ(باب المندب)، أو على الجزر القريبة منه؛ كجزيرة ميون الاستراتيجية، التي استخدمها البريطانيون محطة خدمة ترانزيت للسفن طوال فترة احتلالهم جنوب اليمن".
- مشروع النور
وتابع: "ظلت مناطق باب المندب والسواحل والجزر القريبة منه منطقة مهملة عمداً من قِبل النظام السابق، وجعلها محطة للتهريب وتجارة السلاح والممنوعات من الدول الأفريقية وإليها".
وأشار إلى أنه رغم استعادة السلطات الشرعية والتحالف العربي "باب المندب" وجزيرة ميون من سيطرة المليشيات الحوثية المدعومة إيرانياً، فإنه لم يتم إنشاء أي مشروع تنموي واستثمار؛ بل أقامت الإمارات قاعدة عسكرية على جزيرة ميون.
واختتم الباحث الاقتصادي اليمني حديثه بقوله: "سيوفر باب المندب فرصاً استثمارية اقتصادية كبرى سترفد الاقتصاد اليمني بمليارات الدولارات، وستوفر عشرات الآلاف من فرص العمل لليمنيين، إذا ما أحسنت الدولة اليمنية إدارة موقعه، وأحدثت بِنْية تحتية وإنمائية جذابة لإقامة مشاريع استثمارية تستقطب رؤوس الأموال".
وفرّط اليمن -لأسباب غامضة- في مشروع "جسر النور" الذي أُقرّ إنشاؤه عام 2008 مع جيبوتي، والذي تُبنى في طرفيه مدينة النور كمدينة صناعية وسياحية وتجارية ومنطقة حرة، وبتكلفة تُقدّر بنحو 20 مليار دولار بالنسبة إلى الجسر، أما تكلفة المدينتين فتصل إلى 50 مليار دولار.
وتكمن الأهمية الاستراتيجية للمشروع في موقع البلدين على خريطة التفاعلات الإقليمية والدولية بمنطقة البحر الأحمر؛ حيث كان من المتوقّع توفير 500 ألف فرصة عمل لكلتا الدولتين.
- الأطماع الاستعمارية
المحلل السياسي اليمني أحمد حميدان قال إن اليمن على مرّ التاريخ تأذّى من الأطماع الاستعمارية؛ لموقعه كنقطة وصل بين أفريقيا وآسيا، حيث تتوسّط العالمَ موانئه التجارية، وأهمها عدن كمحطة وترانزيت للتزوّد بالوقود ومنطقة حرة.
وفي حديثه، أوضح حميدان أن "انزلاق اليمن في فوضى يشكّل تهديداً للمضيق؛ لهذا تتدخّل كل الدول في شؤون اليمن تحت مبرّر حماية المضيق الذي يعدّ ممرّاً مهمّاً للتجارة العالمية".
وأكّد أن ارتباط المضيق بقناة السويس يعطي اليمن وموانئه -وفي المقدمة ميناء عدن- فرصة لتكون محطة ترانزيت لاستقبال السفن وتزويدها بالوقود، بالإضافة إلى تحويلها إلى منطقة حرة ومركز تجاري يربط المنطقة بالعالم.
واشترط لذلك أن يكون اليمن قادراً على استثمار موقعه وقربه من الممرّ الدولي "باب المندب"؛ من خلال تقديم الخدمات والتسهيلات للسفن، وعملية الشحن والتفريغ وإعادة التوزيع، والمنطقة الحرة كمركز تجاري منافس في المنطقة.
وأشار حميدان إلى أن عدم استقرار اليمن "جعله لا يجني أي منافع اقتصادية من المضيق، الذي أصبح تحت الحماية الدولية، وهذا التدويل أفقده أي منافع مستقبلية"، خصوصاً مع تضييق الخناق على ميناء عدن بفعل ما وصفها بـ "السياسات الأيديولوجية للحكومات اليمنية المتعاقبة، لتستفيد من ذلك مواقع أخرى، على غرار جبل علي في دبي، الذي لا يملك المقومات المتوافرة لميناء عدن".
- سباق دولي
واعتبر المحلل اليمني أن "باب المندب نعمة، لكن من لا يعرف قيمة النعمة تتحوّل لديه إلى نقمة، ونحن في اليمن نِعَمُنا صارت نقماً؛ مثل الثروة النفطية، والتنوّع المناخي والجغرافي، والموقع الاستراتيجي، والموانئ التاريخية والمهمة. لم نعرف قيمتها، وما نعيشه اليوم نتيجة لذلك".
وعن تسابق القوى الدولية إلى إنشاء قواعد عسكرية على المضيق، ولا سيما في جيبوتي، قال حميدان: إن "ذلك يمثل موضة العصر الاستعمارية، ويضع اليمن في خانة الأطماع، خاصة جزيرتي ميون وسقطرى، وهذا هو مبرّر اهتمام الإمارات بتلك الجزر".
وأما سبب تفضيل جيبوتي، فيرى حميدان أن "القوى الاستعمارية الكبرى تنظر إلى المدى البعيد، وتبحث عن المناطق الأكثر استقراراً وضماناً لبقائها أطول مدة ممكنة؛ ولهذا فضّلت جيبوتي ودول الخليج على اليمن؛ لعوامل الاستقرار والهدوء والأمان والتطويع".
ووصف حميدان اليمن بـ"العَصيّ على التطويع، الإنسان فيه لا يقبل وجود أجنبي على أرضه، وهو بلد الانقلابات والصراع على السلطة، حيث لا ضمان لبقاء الاتفاقيات المبرمة مع السلطة الحاكمة أكثر من فترة حكمها".
- جيبوتي أكبر الرابحين
مصائب اليمنيين من جراء "باب المندب" كانت فوائد لجيبوتي، التي أصبحت من أكثر الدول في الشرق الأوسط استضافة للقواعد العسكرية، بخمس قواعد: الأولى فرنسية (900 عسكري، و34 مليون دولارٍ الإيجار السنوي، والكبرى في أفريقيا، وأقدم القواعد في جيبوتي)، وتستضيف قوات ألمانية وإسبانية، والثانية أمريكية (4000 عسكري، و60 مليون دولارٍ الإيجار السنوي)، والثالثة إيطالية (90 عسكرياً، و34 مليون دولارٍ الإيجار السنوي).
في حين كانت القاعدة الرابعة يابانية (600 عسكري، و30 مليون دولارٍ الإيجار السنوي، وأول وجود عسكري خارج اليابان منذ الحرب العالمية)، والخامسة صينية (10 آلاف عسكري، و20 مليون دولارٍ الإيجار السنوي)، في تحوّل بمسار السياسة الصينية التي كانت ترفض إنشاء قواعد عسكرية في الخارج، إلا أن الظرف الحالي يفرض ذلك؛ لتأمين المصالح الصينية، وهو ما يؤكده ينان جينغ، الخبير الاستراتيجي بوزارة الدفاع الصينية، في تصريحات صحفية.
ويبدو أن العدد لن يتوقف؛ فجيبوتي رحَّبت في عام 2016 بإنشاء قاعدة سعودية على أراضيها، حيث باتت هذه القواعد المصدر الأساسي للدخل القومي لدولة جيبوتي، التي تحصل على قرابة 250 مليون دولار، وهو ما يمثّل ثلث موازنة البلاد، البالغ سكانها نحو مليون نسمة، مقابل تأجير أراضٍ لهذه القواعد، بحسب مركز مقديشو للبحوث والدراسات.
والمفارقة أن جيبوتي تعدّ ثالث أصغر دولة أفريقية، لا يملك جيشها إلا مروحيّتين، و67 مركبة مدرّعة، و76 قطعة سلاح خفيف، بينها مدافع متنوّعة، وفقاً لموقع "أرمي ريكوغنيشن" الأمريكي.
وسعت القوى الكبرى لضمان السيطرة على المضيق من خلال الأمم المتحدة في عام 1982، لتنظيم موضوع الممرات المائية الدولية، ودخلت اتفاقيتها، المعروفة بـ"اتفاقية جامايكا"، حيّز التنفيذ في شهر نوفمبر عام 1994، لكنها في ظل متغيّرات القرصنة والإرهاب، وحرب الصومال، وأخيراً الحرب في اليمن، اتجهت لإقامة هذه القواعد لأغراض اقتصادية وعسكرية.
- الإمارات وإيران
استغلت الإمارات مشاركتها في الحرب اليمنية وسجّلت حضوراً لافتاً بمنطقة "باب المندب"، وبطرق متنوّعة، من خلال بناء قاعدة عسكرية في جزيرة ميون اليمنية بعد استعادة السيطرة عليها من مليشيا الحوثي، في أكتوبر 2015.
وكانت الخطوة الإماراتية تمضي سراً قبل أن يكشفها، في يوليو الماضي، موقع "جاينز" البريطاني المتخصص في الشؤون العسكرية.
والإمارات تشرف أيضاً على معسكر "خالد بن الوليد" بعد استعادته من الحوثيين، حيث يؤمِّن ذلك، الوجودَ الإماراتيَّ في منطقة "باب المندب"؛ بحكم قربه من المضيق.
سبق ذلك بناء وجود عسكري في إريتريا بالتزامن مع استخدام ميناء "عصب" الإرتيري لدعم عملياتها العسكرية في اليمن.
ومن الواضح أن إيران كانت تخطط للسيطرة على المضيق من خلال أداتها؛ الحوثيين، وهو ما جعل القيادي في الحرس الثوري الإيراني، سعيد قاسمي، يصف ذلك بـ"الانتصار الكبير".
وبعد إبعاد الحوثيين عن "باب المندب"، عادوا لعمليات من الساحل المطلّ على طريق الملاحة، حيث هاجموا فرقاطة سعودية وسفناً إماراتية وأمريكية (تحت مبرّر النشاط العسكري)، وهو ما ردّ عليه الأمريكيون بقصف لمواقع رادارات على ساحل البحر الأحمر، أواخر عام 2016.
تلاه نشر الولايات المتحدة المدمّرة "كول"، التابعة للبحرية، قبالة اليمن؛ لحماية الممرات المائية من المسلحين الحوثيين الموالين لإيران؛ حيث تنفّذ دوريات وترافق السفن.
- مستقبل اليمن والمضيق
كل هذا الاهتمام من قِبل القوى الكبرى والإقليمية للسيطرة على مضيق "باب المندب" يجعله مرشَّحاً بقوة لأن يتحوّل في الفترة المقبلة إلى ساحة لتصفية الحسابات بين الدول، خاصة في ظل التقاطعات والتجاذبات الدولية والإقليمية.
فللمضيق أهمية بالغة لمصر؛ خاصة أن نحو 98% من البضائع والسفن الداخلة عبر قناة السويس تمرّ من المضيق، وعائدات القناة تتجاوز 5 مليارات دولار سنوياً.
كما يمثّل محوراً مهماً للتحركات العسكرية الأمريكية، خاصة في استراتيجية إدارة ترامب، ولا يستبعد مراقبون أن يكون المضيق بوابة لتدويل الأزمة اليمنية.
وبحسب مراقبين، فإن اليمن لن يستفيد من هذا المضيق إلا باستقرار سياسي وأمني وانفتاح واستراتيجية اقتصادية واستثمارية، وخلاف هذا فإنه سيستمر في الاكتواء بنار الصراع عليه، وبذلك فهو بين خيارين لا ثالث لهما.