الحروب الإلكترونية .. معارك العالم الافتراضي تنتقل إلى الميدان

الحروب الإلكترونية .. معارك العالم الافتراضي تنتقل إلى الميدان
الحروب الإلكترونية .. معارك العالم الافتراضي تنتقل إلى الميدان

دفع التطور التكنولوجي العالم نحو المزيد من الانفتاح، فاتسع الحيز العام، وتقلص الحيّز الخاص، وتغلب الإنسان على الحدود الجغرافية ببناء علاقات افتراضية عبر شبكة الإنترنت، إلا أن ذلك يختلف فيما يخص العلاقات السياسية الدولية.


وكما في العالم "الواقعي" هناك حاجة دائمة لتنظيم العلاقات بين البشر، وحفظ أمنهم، وحماية ممتلكاتهم من الانتهاكات، أصبحت الحاجة للأمن الإلكتروني أولوية، في الوقت الذي يعتمد فيه الإنسان والمجتمع والدول على الوسائل التكنولوجية لتسيير كل أمورهم.

ومن هنا وضعت مصطلحات من قبيل "أمن العالم الافتراضي" أو "أمن السايبر"، وأصبح هناك "جريمة إلكترونية"، و"حرب إلكترونية" تدور بين أنظمة ودول وجماعات وأفراد، لتعطي شكلاً جديداً غير تقليدي للحروب، فسلاحها إلكتروني، ولا تسيل فيها الدماء بشكل مباشر، لكنها لا تقل خطورة عن الحرب التقليدية بالأسلحة والمعدات العسكرية المحسوسة.

-عهد جديد
ولا شك أن الحرب الإلكترونية التي أعلنها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016؛ بهدف التأثير فيها لمصلحة الرئيس دونالد ترامب شكلت عهداً جديداً في الحروب وباتت بوابة "حروب السايبر" المعلوماتية، وانعكست آثارها على الأرض في الولايات المتحدة.

فللمرة الأولى تنتقل حرب السايبر بين الدول إلى الساحة الديمقراطية، بعد أن كانت تقتصر على استهداف المنشآت العسكرية والاستخبارية.

وأكد تقرير لوكالة الاستخبارات الأمريكية في يناير 2017، "أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أمر بحملة نفوذ لصالح ترامب عام 2016، خلال الانتخابات الرئاسية الأمريكية".

وأوضح التقرير أن الروس حاولوا "تقويض إيمان المواطنين بالعملية الأمريكية الديمقراطية، وتشويه سمعة الوزيرة هيلاري كلينتون، والتأثير في حظوظها الانتخابية".

كما كشف التقرير أن "عملية القرصنة على الانتخابات الأمريكية تمثل أحدث تعبير لموسكو عن رغبتها القديمة في تقويض النظام الديمقراطي التحرري الذي تقوده الولايات المتحدة، وأن النشاطات الروسية في هذا المجال باتت أكثر تصعيداً في مباشرتها ومستوى النشاط وسعة الجهود، إذا ما قورنت بنشاطاتها السابقة".

ويؤكد مراقبون أن الحروب الإلكترونية أو (حرب السايبر) هي حرب بكل ما للكلمة من معنى، ويعرّفها الدكتور بول روزنفياغ، أستاذ القانون في جامعة جورج واشنطن، في بحث له عن قانونية هذه الحرب نشر في عام 2012، أنها "حربٌ ذكية أقوى من أي هجوم برّي أو جوي، وأكثر ذكاءً وأقل تكلفة، فهي لا تحتاج إلى معدات حربية ولا جنود، لكنها تحتاج إلى قدرات علمية عالية".

وأشار روزنفياغ إلى أن لحرب السايبر "تأثيراً عالمياً مدمراً، إذ قد تؤدي إلى تدمير بنية تحتية لدولة ما، بما في ذلك سدودها المائية ومفاعلاتها النووية".

واعتبر أن "حرب السايبر هي تطور طبيعي في مفهوم الحروب، نقلتها إلى جيل جديد يعتمد على التحكم والسيطرة عن بعد".

وقبيل أعوام من توصل المجتمع الدولي إلى الاتفاق النووي مع طهران، شنّت الولايات المتحدة الأمريكية حربها السايبرية على مشروع إيران النووي؛ بهدف إضعاف قدرة طهران النووية، وإجبارها على التنازل على طاولة المفاوضات، وهو ما تم وفق خبراء.

فمن ثكنة جورج ميد، بولاية ميريلاند الأمريكية، عكف الجيش الأمريكي على إرسال الفيروسات الخبيثة لتخريب المنشآت النووية الإيرانية، الأمر الذي أضعف قدرتها على تخصيب اليورانيوم.

- جبهات
لكن واشنطن نفسها لم تكن بمأمن من الحرب السايبرية، ففي يوم الجمعة 23 مارس 2018 وجهت وزارة العدل الأمريكية اتهامات جنائية وفرضت عقوبات على شركة إيرانية وعلى 9 إيرانيين ناشطين في معهد "مبنا" الإيراني، لاختراقهم أنظمة مئات الجامعات والشركات وضحايا آخرين لسرقة البحوث والبيانات الأكاديمية والملكية الفكرية.

ووصفت وزارة العدل الأمريكية القراصنة بأنهم عصابة تسلل إلكتروني، حاول أفرادها اختراق مئات الجامعات حول العالم، نيابة عن الحرس الثوري الإيراني الإسلامي، شاملين بتسللهم عشرات الشركات وقطاعات من الحكومة الأمريكية لحساب الحكومة الإيرانية، وفق ما ورد ببيان قالت فيه الوزارة إن الهجوم الذي وصفته بإحدى كبرى الهجمات الإلكترونية التي ترعاها دولة، بدأ منذ 2013 على الأقل، وبه تمت سرقة أكثر من 31 تيرابايت من البيانات الأكاديمية وحقوق الملكية الفكرية من 144 جامعة أمريكية و176 جامعة في 21 دولة أخرى.

وفي العام 2014 كشفت صحيفة نيويورك تايمز أن وحدة المحاربين السايبريين في الجيش الصيني هي المسؤولة عن غالبيَّة الهجمات التي تعرَّضت لها الشركات الأمريكية، وحتى الوزارات.

وكان الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، قد حذّر بكين من أن الهجمات السايبرية تُعد شكلاً من أشكال العدوان الحربي على بلاده، متوعداً بالرد بالمثل.

وكان أقسى انتقام للولايات المتحدة بحق كوريا الشمالية؛ عندما قامت الأخيرة في العام 2014 بقرصنة شركة سوني بيكتشرز إنترتينمنت؛ لمنع عرض فيلم (ذا إنترفيو)، الذي يسخر من ديكتاتور كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، وقطعت واشنطن الإنترنت 3 أيام عنها، وعزلتها عن العالم طيلة تلك الفترة.

هذه الحرب لم تكن بعيدة عن الساحة العربية، إذ أنهكت المقاومة الفلسطينية الاحتلال الإسرائيلي بغاراتها السايبرية، والتي كان أبرزها عام 2013، عندما شنت مجموعة من الهاكز تدعى "أنونيموس"، أكبر عملية قرصنة معلوماتية ضد "إسرائيل".

أدت هذه الحرب إلى إسقاط مواقع وزارات ومؤسسات إسرائيلية، ومن ضمنها دائرة الهجرة اليهودية، والمحاكم، وإيقاع خسائر مالية بلغت 3 مليارات دولار، باعتراف القناة العاشرة الإسرائيلية، آنذاك.

كما استهدفت أكثر من 100 ألف موقع، و40 ألف صفحة على الفيسبوك، و5 آلاف حساب على تويتر تابعة لمسؤولين إسرائيليين، و30 ألف حساب مصرفي إسرائيلي.

-متاعب مالية
وتزداد تكلفة الهجمات السايبرية بشكل متسارع، بحيث أصبحت تكلّف العالم سنوياً فاتورة باهظة تزيد على 600 مليار دولار، أو ما يعادل 1% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ما يهدد بمستقبل مخيف للاقتصاد العالمي.

وبحسب تقرير صادر عن مركز الدراسات الاستراتيجية في واشنطن بالتعاون مع شركة "مكافي" لبرامج الأمن المعلوماتي، فإن الاقتصاد العالمي يتكلف سنوياً نحو 600 مليار دولار من جراء تلك العمليات، وهذا الرقم مرشّح للزيادة في السنوات المقبلة، لا سيما في ظل انتشار العملات الرقمية التي أصبحت سوقاً سوداء وملاذاً لتحويل ما يتم الاستيلاء عليه عبر عمليات الاحتيال.

وأظهر التقرير، الذي نُشر في مطلع فبراير 2018، نمواً متسارعاً في خسائر الهجمات السايبرية؛ من 445 مليار دولار في العام 2014 إلى 600 مليار في 2017، مرجعاً ذلك لاستخدام منفّذي الجرائم الإلكترونية أساليب تكنولوجية حديثة، إضافة إلى تسهيل نشاط العملات الرقمية لأعمالهم وتحويل الأموال.

مبلغ الـ600 مليار دولار الذي فقده الاقتصاد العالمي العام الماضي بفعل الهجمات السايبرية يعادل ضعف خسائر الولايات المتحدة من جراء 16 كارثة طبيعية شهدتها في 2017، وبلغت تكلفتها 306 مليارات دولار، وفق بيانات رسمية.

وتزيد خسائر الهاكرز في عام واحد فقط كثيراً عمَّا تكبّده الشرق الأوسط في خمس سنوات من نفقات بفعل الصراعات، والتي بلغت 348 مليار دولار، بحسب ما أعلنه "التحالف العسكري الإسلامي لمحاربة الإرهاب" (تقوده السعودية)، في نوفمبر الماضي.

وكما أن حروب السايبر ستتواصل فإن الخسائر الناجمة عنها أيضاً لن تتوقف، ووفق دراسة صدرت العام الماضي عن مؤسسة "أوبن ثينكينغ" (دولية مختصة بالتدريب)، فإنه من المتوقع أن تتسبب الهجمات الإلكترونية بخسارة الاقتصاد العالمي نحو 3 تريليونات دولار بحلول عام 2020، إذا لم تتخذ الحكومات التدابير اللازمة لمواجهتها.