الدب الروسي يتسيّد .. حين يستغني العالم عن واشنطن ويلجأ لموسكو
قبل أن تقع الفأس في الرأس، حملت "إسرائيل" نفسها وأسرعت إلى روسيا مستنجِدةً بها؛ من أجل التدخل لوقف خطر محتمل يحدق بأمن تل أبيب من جهة سوريا، التي يتحالف فيها الرئيس الأسد مع إيران، غريمة "إسرائيل".
فموسكو، صاحبة السيطرة والمتحكمة في زمام الأمور بسوريا، قادرة على ضبط تحركات إيران التي تقاتل معها في صف واحد إلى جانب الأسد، ضد قوى المعارضة السورية المسلحة، منذ أواخر 2011.
بحثُ إسرائيل عن مصالحها جعلها تطلب من روسيا التدخل لمنع التصعيد على جبهتها مع سوريا، وذلك بعد ساعات من غارات نفَّذتها مقاتلات الاحتلال، وسقطت إحداها خلالها، إضافة لأخرى إيرانية من دون طيار.
توسُّع الدور الذي تؤديه روسيا في الشرق الأوسط، والتراجع الملحوظ للدور الأمريكي بالمنطقة -خاصة في سوريا- يعطيها زخماً قوياً ودافعاً للتدخل بملفات مركزية مهمة بالمنطقة.
- قوة في سوريا
ولعل تجاهُل "إسرائيل" للولايات المتحدة الأمريكية، صاحبة النفوذ الأقوى في العالم، والموجودة قواتها في الشمال السوري أيضاً، يشير إلى إيمان تل أبيب بالقوة الروسية التي تحمي مصالح أمنها؛ نظراً إلى وجود علاقات وطيدة بين موسكو ونظام بشار الأسد.
هذا الأمر أكده مايكل أورن، نائب رئيس وزراء إسرائيل للشؤون الدبلوماسية، الذي قال إن أمريكا لم تعد لاعباً رئيساً في الشرق الأوسط؛ بل روسيا التي تمسك بأوراق الوضع بالمنطقة بين إسرائيل وسوريا وإيران.
تصريحات أورون نشرتها وكالة "بلومبيرغ"، والتي قال فيها: "إن الجانب الأمريكي في المعادلة الراهنة، هو طرف يوفر لنا الدعم، لكن الولايات المتحدة الآن لا تملك تقريباً أي نفوذ في سوريا، وهي خارج اللعبة؛ لكونها لم تضع أي أرصدة فيها".
ووفقاً لهذا السياسي الإسرائيلي، فإن روسيا هي الأقدر على وقف المواجهة التي نشأت عند الحدود الشمالية مع سوريا، في حين أن تل أبيب تطمع في روسيا، التي يبدو أنها تمتلك فرصاً للضغط بقوة على سوريا وإيران وحشرهما في الزاوية".
وفي إطار لجوء تل أبيب إلى موسكو، تحدّث رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عقب اشتدادٍ محدودٍ للمواجهة، حول "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد هجمات على إسرائيل (فلسطين المحتلة) من جهة سوريا".
نتنياهو أشار إلى اتفاقه مع بوتين على استمرار التنسيق الأمني بين جيوشها، قائلاً: "أبلغت الرئيس الروسي أن إسرائيل ستتصدى لأية محاولة إيرانية للتمركز في سوريا ضدنا".
إذن، فنظرة الجانب الإسرائيلي إلى روسيا كمركز قوة وسيطرة في الشرق الأوسط، تثبت -بما لا يدع مجالاً للشك- تراجُع التأثير الأمريكي في الأطراف الدولية، خاصةً عقب وصول الرئيس دونالد ترامب، وقراراته المجنونة التي وضعت المنطقة على صفيح ساخن.
وهذا يدفع إلى التساؤل عما إذا كانت روسيا ستستغل طلب إسرائيل بشأن حماية حدودها الشمالية، للضغط على تل أبيب وسحبها إلى طاولة المفاوضات مع السلطة الفلسطينية؛ للوصول إلى اتفاق سلام.
- وسيط بديل
فإذا نجحت روسيا في إخضاع "إسرائيل" لحوار جديد مع السلطة برعايتها، فإن ذلك سيؤكد نظرة بعض الأطراف إلى موسكو كراعٍ ووسيط جيد للسلام بدلاً من واشنطن، التي يرفض الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، وساطتها.
وآخِر المواقف الروسية بشأن القضية الفلسطينية كان في الـ19 من يناير 2018، وتمثل بإعلان الكرملين استعداد روسيا للتوسط بين إسرائيل والسلطة، من أجل التوصل لحل يرضي كل الأطراف.
هذا الموقف أعقبه إعلان عن زيارة لـ"أبو مازن" خلال النصف الأول من فبراير الجاري، يبحث خلالها إيجاد رعاية جديدة لعملية السلام، تزامناً مع تصريحات لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، قال فيها: إن "الحوار بين الإسرائيليين والفلسطينيين يقترب من الصفر".
وأضاف الوزير الروسي أن "الفلسطينيين قدموا العديد من التنازلات سنوات طويلة دون الحصول على أي مقابل"، مضيفاً أنهم على استعداد للمحادثات مع إسرائيل دون شروط مسبقة.
هذه المواقف تتماشى مع تصريحات لافروف (خلال لقائه شعث في 19 ديسمبر الماضي) بشأن استعداد بلاده "لكل ما يلزم لإعادة الوضع بشأن القدس إلى مجرىً بنّاء"، مشدداً على أن بلاده تؤيد بدء مفاوضات مباشرة على أساس قرارات الأمم المتحدة.
روسيا، التي قالت في مناسبات مختلفة إن عملية السلام "ستسود في المستقبل القريب"، يبدو أنها تستند إلى أرضية جيدة تؤهلها لتأدية دور مهم -إن لم يكن الوسيط- في المفاوضات بين فلسطين والاحتلال الإسرائيلي.
وما يجعل موسكو مؤهَّلة للوساطة، موقفُها الرافض لقرار ترامب بشأن القدس، وتأييدها (إلى جانب 127 دولة) مشروعاً تقدمت به اليمن وتركيا في ديسمبر الماضي، يؤكد اعتبار المدينة من "قضايا الوضع النهائي، التي يتعيّن حلها بالمفاوضات".
كما أن روسيا، صاحبة الثقل والضالعة في معظم قضايا التغيير التي شهدتها دول عربية خلال السنوات الأخيرة، انتقدت "الفيتو" الأمريكي ضد مشروع القرار الذي يدعو لرفض قرار ترامب بشأن القدس، كما انتقدت قرار ترامب نفسه.
- تركيا وعملية عفرين
وللبدء بعملية عسكرية في عفرين (شمالي سوريا)، ذهبت تركيا إلى روسيا للتنسيق بشأن "غصن الزيتون" التي أطلقتها أنقرة في 20 يناير الماضي، ضد التنظيمات التي تصنفها "إرهابية" والمدعومة عسكرياً من واشنطن؛ لحماية حدودها من جهة الجنوب.
ولأن الظرف الإقليمي مساعد على تنامي المهدِّدات على الحدود، اتجهت تركيا نحو سياسة أكثر حزماً في سوريا، لا سيما فيما يتعلق بتمدد تنظيمي "الدولة" و"ب ي د" على حدودها الشمالية.
وهذا لم يكن، بطبيعة الحال، دون التنسيق مع الروس المتحكمين في معادلات العسكرة، لا سيما بالشمال السوري، خاصة بعدما كُسر الجليد المتراكم بين أنقرة وموسكو، إبان حادثة إسقاط الطائرة الروسية، حسب مقال للباحث الاستراتيجي، معن طلّاع.
ويذكر طلّاع أن الجمود بين تركيا وروسيا كُسر بمرونة القيادة التركية، وتعزيز المصالح الاقتصادية المشتركة كمدخل، تعززت فرضياته بعد وضوح التراخي في قضية انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي.
ويرى أن "الواقعية والبراغماتية" عززتا ضرورة التنسيق والاشتراك مع الروس في الملف السوري من خلال بوابة مكافحة الإرهاب وتذليل الأخطار الأمنية وضبط الحدود، الأمر الذي حقق توافقاً بين أنقرة وموسكو حول عمليتي "درع الفرات" (أغسطس 2016)، و"غصن الزيتون" (يناير 2018).
بعد ذلك، أتى سياق معركة حلب، التي أرادت موسكو منها إخراج المدينة من معادلات الصراع، واستطاعت تركيا إنجاح مفاوضات الإجلاء وإنهاء مأساة المدنيين، لتزداد مساحة الثقة البينية ومستوى التقارب السياسي بين البلدين.