بقلم فهمي هويدي: كل الفيلم أم بعضه؟

بعدما تمت تبرئة مبارك وعاد إلى بيته معززا مكرما فى حين لايزال الذين ثاروا ضده فى السجون، لا مفر من الاعتراف بأن «الفيلم» حقق نجاحا مشهودا، وأن الأطراف التى أشرفت على انتاجه وإخراجه بلغت مرادها، حتى إشعار آخر على الأقل. وترتب على ذلك أن ارتفع فى الفضاء المصرى شعار «آسفين يا ريس»، بحيث كاد ينسى كثيرون أن نحو ألف من أجمل شباب مصر قتلوا وما لا يقل عن أربعة آلاف اصيبوا أو تمت إعاقتهم وتشويههم، قبل أن يتم خلع الرجل الذى جثم مع أعوانه على صدر مصر نحو ثلاثين عاما.


كان عنوان البراءة للجميع هو ما أعلن فى أعقاب تبرئة الرجل، التى سبقتها خطوات محكمة ومدروسة مهدت لذلك من خلال تبرئة أعوانه واحدا تلو الآخر، ومن ثم غسل أيديهم من دماء الشهداء ومن الفساد الذى استشرى والتدليس والتزوير الذى كان إحدى سمات عصره. وبعد إسدال الستار على المشهد الأخير من الفيلم طرح السؤال: لماذا لا نسمع شهادة الرجل على عصره؟ وهو ما فتح الباب لاستدعاء سؤال آخر يقول: ولماذا لا يتكلم الآخرون من أعوانه، وفى المقدمة منهم وزير الداخلية حبيب العادلى لكى نستكمل توثيق تاريخ تلك المرحلة؟ وإذ لا أستبعد حسن نية بعض الذين طرحوا هذه القضية، فإننى أستبعد أن تؤدى مثل تلك الشهادات إلى التعرف على حقائق المرحلة التى سبقت الثورة التى كان مبارك وأعوانه قائمين على الأمر فى مصر خلالها. وأقطع بأن كلامهم عن أحداث الثورة التى استغرقت ١٨ يوما لن يخدم الحقيقة بأى حال. كما أننى لا أشك فى أنه سيسعى إلى طمسها وتشويهها. ذلك أن شهاداتهم ستظل من قبيل الدفاع عن النفس، الذى لا يمكن أن يصنف باعتباره تاريخا، ولكنه سيظل مستهدفا تبييض تاريخ الرئيس الأسبق ورجاله وعصره. وهو أمر مبرر ومفهوم. لابد أن يكون المحامون قد لجأوا إليه فى سياق إقامة مهرجان تبرئة الجميع.

ليس لدى كلام عن سنوات حكم مبارك. لأن الإجماع الشعبى الذى بلغ ذروته فى ٢٥ يناير كان بمثابة محاكمة حقيقية له، أدانته وأسقطته بجدارة استحقها. وأزعم أن فيلم وقائع الثورة الذى أتحدث عنه جرى إنتاجه وإخراجه بعد ذلك هو ما يستحق الحديث. ذلك أن الفيلم كتبت له روايتان إحداهما أعدها القضاء النزيه والثانية كتبتها الدولة العميقة. الرواية الأولى كتبت فى مرحلة براءة الثورة وصفاء الإجماع الوطنى، وتمثلت فى لجنتى تقصى الحقائق التى رأسها اثنان من أرفع القضاة وأكثرهم نزاهة هما المستشار عادل قورة الرئيس الأسبق لمحكمة النقض الذى رأس لجنة تقصى حقائق أحداث الثورة. واللجنة الثانية رأسها المستشار عزت شرباص رئيس محكمة النقص الأسبق، وهذه تقصت حقائق مرحلة المجلس العسكرى. وبطبيعة الحال فقد شارك مع كل منهما عدد معتبر من الإخصائيين والخبراء الذين تولوا بأنفسهم تحرى الحقيقة فى هاتين المرحلتين. أما الرواية الثانية فقد كتبتها عناصر الدولة العميقة واعتمدت على تحريات وتقارير الأجهزة الأمنية التى استعادت موقعها ودورها، واستهدفت إزالة آثار «عدوان» ٢٥ يناير. ولأسباب مفهومة تم إعدام الرواية الأولى ولم يعد لها ذكر. فى حين أصبحت الرواية الثانية بمثابة التاريخ الرسمى للثورة الذى أعاد مبارك إلى بيته مرة أخرى بعدما غاب عنه فى إجازة استغرقت ٦ سنوات، واقتضاها حسن إخراج المشهد.

ليس ما حدث استثناء فى الثورات التى عرفتها البشرية. ذلك أن ما كتب فى ظلها كان مجرد شهادات أغلبها كان تزويرا وتدليسا، ولم يكتب تاريخها إلا بعد زوالها. وهو ما يستدعى السؤال التالى: هل عودة مبارك إلى بيته هو كل الفيلم أم جزؤه الأول؟