روسيا .. كيف تخترق أقوى دول العالم دون أن تطلق رصاصةً واحدةً؟
لم يعد الحديث عن الأهمية التي يحتلها موقع «فيسبوك» في مجالات الإعلام والسياسة في العالم، يضيف أي جديد؛ لكن الحديث الآن يدور في أروقة الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا حول الدور الروسي، في صناعة التوجهات السياسية والفكرية في بعض بلدان أوروبا والولايات المتحدة؛ لذلك يتعرض موقع فيسبوك، في هذه الآونة، لحملات ضغط كبيرة من أجل تسليم البيانات التي يمتلكها، ومن شأنها تأكيد سعي موسكو إلى التدخل في شؤون دول خارجية.
الدرس الروسي: كيف تخترق أكبر قوة عالمية بدون سلاح؟
رصدت تقارير الطرق التي حاولت بها روسيا التأثير في سير العملية الانتخابية بالولايات المتحدة الأمريكية، واستخدمت روسيا، بحسب هذه التقارير، وسائل تنكرية ذكية للتدخل في الانتخابات الأمريكية. واستخدمت صفحات عامة، وصفحات شخصية تبدو وكأنها أمريكية لتمرير وجهات نظر معينة، وإشاعات تؤثر بشكل مباشر في الانتخابات الأمريكية.
من بين تلك الطرق، بعض الصفحات الخاصة بالدفاع عن حقوق حاملي السلاح، وأخرى متخصصة في دعم حقوق المثليين، وكذلك مجموعات (groups) لمحبي الحيوانات، واستخدمت موسكو خاصية الإعلانات الممولة لزيادة متابعة هذه الصفحات من أجل جذب المتابعين من الأمريكيين.
كانت كل تلك المحاولات محل تشكك في السابق، إلا أن هذه المزاعم أصبحت أكثر تصديقًا الآن من قبل محققين فيدراليين، وكذلك مسؤولين رسميين في فيسبوك. يعتقد هؤلاء المحققون أن هذه المجموعات والصفحات كانت جزءًا من حملة تضليلية منسقة بشكل كبير بواسطة «وكالة أبحاث الإنترنت»، وهي الشركة السرية، التي تتخذ مدينة سان بطرسبرج الروسية مقرًا لها. تعرف هذه الشركة بمهماتها الخاصة بنشر أخبار مزيفة، وكذلك دعاية خاصة بـ«الكريملين» على الإنترنت.
فيسبوك تقر بوجود الاختراق
بعد تعرضها لضغط متزايد في الفترات الأخيرة، اعترفت إدارة فيسبوك بوجود أكثر من 3000 إعلان مرتبط بروسيا قد نُشر على المنصة الزرقاء خلال 470 صفحة عامة وشخصية، وسُلمت جميعها إلى مجلس الشيوخ الأمريكي، ووكالة الاستخبارات الأمريكية (سي آي ايه). أصبحت هذه المعلومات الآن جزءًا من محاولة السلطات الأمريكية الجادة للكشف عن المستوى الحقيقي للتدخلات التي قامت بها موسكو في الانتخابات الأمريكية عام 2016.
رغم هذا الاعتراف من إدارة فيسبوك بما حدث، إلا أنها رفضت تمامًا تسمية أو تأكيد أي من المزاعم التي تناولت أسماء محددة لتلك الصفحات، وكانت الأسباب التي بررت بها إدارة فيسبوك رفضها، هي القيود القانونية، والمحادثات الدائرة مع المحققين الاتحاديين. لم تتوقف التقارير الصحافية عند رفض فيسبوك الإدلاء بأسماء تلك الصحف، وخرجت تقارير تحدد الصفحات ذات الاتصالات والروابط الروسية.
ما هو الحجم الحقيقي للاختراق الروسي؟
لمحاولة فهم حجم الاختراق الروسي ضد الولايات المتحدة، فإنه ينبغي مقارنة الأرقام التي صرحت بها فيسبوك بشكل رسمي، إضافة إلى أرقام أخرى يتم تداولها في الوسائل الإعلامية الأخرى. شاركت فيسبوك السلطات الأمريكية ببيانات تثبت مشاهدة حوالي 10 ملايين مواطن أمريكي للإعلانات التي رصدتها، وترتبط بشكل مباشر بالكرملين الروسي.
هذا الرقم، طبقًا لفيسبوك هو عدد الذين شاهدوا الإعلانات المدفوعة على منصة الموقع، لكن التأثير الحقيقي، وعدد الأشخاص الذين شاهدوا بالفعل الدعاية الروسية، من المتوقع أن يكون أكثر بكثير من هذا الرقم.
قد يشاهد الأشخاص الإعلانات الممولة من الوكالة الروسية، أو منشورات من الحسابات الروسية الوهمية، أو الصفحات العامة، أو المجموعات المغلقة، والتي استغلت الإعلانات المدفوعة لزيادة أعداد متابعيها، وليس لترويج فكرة معينة. تؤكد تقارير أن الرقم الحقيقي الذي أدلت به فيسبوك في شهادتها للسلطات الأمريكية، بمختلف وسائل العرض في المنصة، يبلغ قرابة 126 مليون مواطن أمريكي.
الكونجرس الأمريكي يرد
في محاولة لتقليل الخسائر المحتملة، كشف الكونجرس الأمريكي عن قانون من شأنه أن يجبر فيسبوك، وتويتر، وجوجل، ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، على الكشف عن هوية مشتري الإعلانات التي تُعرض على تلك المنصات. ويهدف هذا القانون لسد ثغرة مهمة في يد الحكومة الروسية للتلاعب، والسيطرة على نتائج الانتخابات الأمريكية، وكذلك الترويج لأجندات سياسية معينة، لا تعكس الإرادة السياسية لحكومة الولايات المتحدة.
برر المسؤولون الأمريكيون أول رد تشريعي على التدخلات الروسية، بأن مشروع القانون يهدف إلى الدفاع عن أساس النظام السياسي للولايات المتحدة الأمريكية، وقبل الانتخابات الأمريكية الأخيرة، صارعت فيسبوك وجوجل من أجل استثنائهما من القوانين التي تحكم التليفزيون والراديو في الولايات المتحدة الأمريكية، تلك القوانين التي تأمر بالكشف عن الأشخاص المعلنين على تلك المنصات، وعللت الشركتان الكبيرتان معارضتهما لتطبيق القواعد عليهما بأن الإعلانات على المنصتين أصغر من أن يتم إجبارهم على الكشف عن أصحابها.
البعض يسأل: لماذا فيسبوك؟
تظهر هذه الاكتشافات الأخيرة للتدخلات الروسية في السياسات الأمريكية -عن طريق الاندماج مع المواطنين العاديين، ومشاركة مقاطع فيديو قد تعجبهم، أو الاشتراك في مجموعات تهتم بأشياء مشتركة، أو منشورات يتم مشاركتها من حسابات شخصية بأسماء أمريكية تقليدية- فلسفة موسكو التي تبرزها التقنيات التي استخدمتها، وتكشف رغبتها في التحكم في المجتمع الأمريكي بشكل عام، وليس في الأمور السياسية فقط، وذلك من خلال زرع مواطنين أمريكيين بصور وأسماء حقيقية في فيسبوك، لكن لا وجود لهم في الواقع. هذه الفلسفة لا يمكن أن تُطبق بوسيلة أفضل من فيسبوك.
لا يعود الأمر إلى عدد مستخدمي فيسبوك، والذي يتخطى ملياري مستخدم، وهو سبب كافٍ بلا شك، لكن هناك بالفعل ما هو أكثر من ذلك، مما يقدمه فيسبوك، ويمكن أن يساهم في تنفيذ هذه الفلسفة. قدم فيسبوك في السنوات الأخيرة الكثير من الخطط التي تعكس الرغبة التي يسعى فيسبوك إلى تنفيذها بقوة، وهي أن يصبح فيسبوك هو الإنترنت بالنسبة لمستخدميه متزايدي العدد.
كانت من بين الخدمات التي قدمها فيسبوك ليصل إلى هذا الهدف، خدمة المقالات الفورية، والتي تتيح للقارئ ولوج المقالات دون أن يكون مضطرًا للخروج من فيسبوك، كذلك خدمة مقاطع الفيديو، والتي تم تطويرها لتعطي المستخدم خبرة مميزة وأكثر سهولة مما يقدمه عملاق المقاطع المصورة «يوتيوب»، وبالفعل نجحت الخدمة وتخطى فيسبوك، في عدد مشاهدات مقاطع الفيديو، يوتيوب لأول مرة في عام 2014، لتستمر طموحات فيسبوك في الاقتراب من التحقق. في وقت قريب يبدو أن مارك سينجح فعلًا في أن يجعل فيسبوك هو الإنترنت.
هل دفعت موسكو بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي؟
اعترفت فيسبوك أن منصتها قد تكون استخدمت من قبل حسابات شخصية متصلة بالحكومة الروسية، للتدخل في التصويت الذي تم في استفتاء بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي. وكانت إدارة فيسبوك قد أصدرت تصريحات صحافية، بصيغة حذرة، حول هذا الأمر على لسان المتحدثة باسم الشركة التي قالت: «حتى الآن، لم نلاحظ أن المجموعات المعروفة بارتباطها بروسيا تشارك في تنسيق كبير بشراء الإعلانات، أو التضليل السياسي الذي يستهدف التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي».
وعندما تمت مواجهة المتحدثة بتصريح سابق بممثل فيسبوك الذي رفض بشكل قاطع تلك المزاعم قائلًا: «لا يوجد أي دليل على التورط في التدخل بالاستفتاء البريطاني»؛ قالت المتحدثة بأن تصريحها هو الذي يعبر عن وجهة نظر الشركة.
بمقارنة التصريحين يظهر بسهولة الاختلاف الجوهري بينهما، وهو أن الأول يرفض بشكل قاطع أي رصد لتدخلات روسية في الاستفتاء، بينما تصريحات المتحدثة تنفي استخدام حسابات معينة للتدخل في الاستفتاء؛ وهو الأمر الذي يترك الاحتمالات مفتوحة أمام احتمالات أخرى غير محدودة، سواء استخدام حسابات أو صفحات غير التي تحدثت عنها المتحدثة باسم الشركة.
بعد هذه التصريحات خرجت «تيريزا ماي»، رئيسة وزراء بريطانيا، لتتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتدخل في الانتخابات، ومحاولة القرصنة على الحكومات الغربية من أجل تحقيق مصالح دولته، مهما كانت التكلفة. وحذرت تيريزا بوتين، قائلة: «نحن نعرف ما تقومون به ولن تنجحوا في ذلك الأمر».
وأضافت تيريزا إلى قائمة اتهاماتها للرئيس الروسي، صناعة الأخبار المزيفة، والصور المصنوعة، في محاولة من النظام الروسي لتقويض الدول الأوروبية. ومن جهة أخرى، طالب نواب بريطانيون إدارة فيسبوك بتسليم الأدلة التي تمتلكها عن تورط حسابات مرتبطة بـ«الكرملين» الروسي في الاستفتاء؛ ليزيد الضغط على إدارة فيسبوك من جبهات مختلفة.
كيف ينوي فيسبوك مواجهة الإجراءات المعادية للديمقراطية؟
في خضم هذه المناقشات والضغوط التي يتعرض لها فيسبوك، خرج مارك ببث حي على صفحته، لإثبات نيته في مقاومة هذه التدخلات التي تعتبر معادية لمبادئ الديمقراطية التي يدعمها فيسبوك، وكذلك أعلن عن الخطوات التي ينوي الموقع اتخاذها لمحاولة جعل هذا النوع من التدخلات «أصعب»، بحسب وصفه.
واعترف مارك بعدم قدرة فريق فيسبوك، منع هذه النوعية من الأنشطة بشكل كامل، إلا أنه وعد بأن يقوم فريقه بخطوات محددة لجعل الأمر أصعب مما هو عليه الآن. من أهم تلك الخطوات التي أعلنها، كانت نيته استمرار التعاون مع السلطات الأمريكية في تحقيقها الجاري، كذلك استمرار التحقيقات الداخلية في فيسبوك للوقوف على ملابسات وظروف هذا الاختراق، والعمل على منعه مستقبلًا.
أعلن مارك أيضًا نية فريقه جعل الإعلانات السياسية أكثر شفافية، وذلك بالإعلان عن ممول هذه الإعلانات سواء كان شخصًا أو مؤسسة، كذلك توظيف المزيد من الموظفين لمراقبة المحتوى المتعلق بالانتخابات في الدول المختلفة، ومحاولة كشف أي تلاعب.