الأسرار "القذرة" بالرقة .. هكذا دعمت أمريكا اتفاقاً بين "داعش" والأكراد؟

الأسرار "القذرة" بالرقة .. هكذا دعمت أمريكا اتفاقاً بين "داعش" والأكراد؟
الأسرار "القذرة" بالرقة .. هكذا دعمت أمريكا اتفاقاً بين "داعش" والأكراد؟

كشفت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، في تحقيقٍ موسعٍ من مدينة الرقة، تفاصيل الصفقة السرية التي تمت بين مقاتلي تنظيم الدولة وأُسرهم، مع قوات سوريا الديمقراطية، لضمان خروجهم من المدينة السورية تحت إشراف التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا.


القافلة التي خرجت من الرقة بناءً على هذا الاتفاق ضمت بعض أعضاء التنظيم الأكثر شهرةً، وعشراتٍ من المقاتلين الأجانب، وقد انتشر بعضٌ منهم في جميع أنحاء سوريا وحتى تركيا.

أبو فوزي، سائق أحد الباصات التي نقلت أعضاء التنظيم وأسرهم، قال إن قوات سوريا الديمقراطية، وتضم تحالفاً من المقاتلين الأكراد والعرب المناهضين لتنظيم الدولة، طلبوا منه أن يقوم بعملية نقل المقاتلين وأسرهم خارج مدينة الرقة.

وأضاف أبو فوزي: "في البداية أبلغونا أننا سنقوم بنقل نازحين من الطبقة على نهر الفرات إلى مخيم آخر في الشمال، وأن العمل لن يستغرق سوى ست ساعات في الحد الأقصى، ولكن عندما ذهبنا أنا وآخرون، تحديداً في 12 أكتوبر، اكتشفنا أنهم كذبوا علينا، بدلاً من ذلك فإن العمل سيستغرق ثلاثة أيام من القيادة الشاقة، وأن الحمولة ستكون قاتلة، إنها تضم مئات مقاتلي (داعش) وعائلاتهم، ومعهم أسلحةٌ وذخائر".

رُتِّبت الصفقة للسماح لمقاتلي التنظيم بالخروج من الرقة من قبل مسؤولين محليين بعد أربعة أشهر من القتال الذي غيَّر ملامح المدينة، ومقتل آخرين تحت أنقاض منازلهم، وكان مسوّغ الاتفاق أنه سيسمح بإنقاذ الأهالي الموجودين في الرقة، وحماية أرواح مقاتلي سوريا الديمقراطية الذين كانوا يواجهون "داعش".

بالمقابل، مكن الاتفاق المئات من مقاتلي تنظيم الدولة من الفرار من المدينة، وهو ما جعل كلاً من التحالف الدولي بقيادة أمريكا، وقوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكياً، يتهربان من هذا الاتفاق ودورهما فيه.

أدى هذا الاتفاق "القذر" إلى انتشار مقاتلي التنظيم داخل سوريا وخارجها، وتهديد العالم مجدداً، مما اضطر الموقعين عليه إلى محاولة إخفائه، لكن هيئة الإذاعة البريطانية تمكنت من الحديث مع عشرات الأشخاص من الذين كانوا إما على متن القافلة، وإما أنهم شاهدوا ذلك، إلى جانب رجال آخرين تفاوضوا لإنجاز الاتفاق.

في ساحةٍ بمدينة الطبقة، وتحت نخلة تمرٍ، كان هناك أولاد مشغولون بالعمل على إعادة تصليح محرك شاحنة، وبالقرب منهم مجموعة من السائقين بينهم أبو فوزي الذي كان يتوسط تلك المجموعة، والذي أوضح أنه زعيم مجموعة سائقي الشاحنات، كانوا غاضبين؛ فقد قضوا أسابيع من العمل الخطر، وفي رحلة أهلكت حتى محركات السيارات الكبيرة؛ ومع ذلك فإنهم لم يحصلوا على أجورهم التي تم الاتفاق عليها.

يقول أبو فوزي: "كنا خائفين لحظة دخولنا للرقة؛ كان المفترض أن تذهب معنا قوات الدفاع المدني، ولكننا ذهبنا وحدنا، وبمجرد دخول الشاحنات إلى الرقة شاهدنا مقاتلي التنظيم بأسلحتهم وأحزمتهم الانتحارية، لقد خدعونا، أي خطأ في الصفقة كان يؤدي إلى تفجير القافلة، حتى نساء وأطفال داعش كانوا يرتدون أحزمةً ناسفة".

قوات الدفاع الكردية منعت وسائل الإعلام من تغطية معركة الرقة، ولم يكن هناك أي وسيلة إعلام شاهدة على عملية هروب مقاتلي التنظيم.

قوات الدفاع الكردية قالت إن الصفقة لم تمكن سوى أعداد قليلة من مقاتلي التنظيم من المغادرة، وإن جميع من رحلوا بموجب هذا الاتفاق هم سكان محليون.

ولكن أحد سائقي القافلة أخبرنا بأن هذا الأمر ليس صحيحاً؛ وأضاف: "عندما دخلنا الرقة أبلغونا أنه سيتم ترحيل 200 شخص، فاكتشفنا أننا رحَّلنا قرابة 4 آلاف شخص، شاحنتي وحدها حملت 112 شخصاً".

سائق آخر قال إن القافلة كانت طويلة؛ "كانت نحو 50 شاحنةً، و13 حافلةً، وأكثر من 100 سيارة تابعة لتنظيم داعش، وكان امتداد القافلة وهي تخرج من الرقة ما بين ستة إلى سبعة كيلومترات، وكانت وجوه جميع مقاتلي التنظيم مغطاة، وجلسوا على رأس بعض المركبات".

بعض اللقطات السرية التي أخذت للقافلة بينت أن تلك الشاحنات كانت مكتظة برجال مسلحين، ورغم أن الاتفاق سمح لهم بأخذ أسلحتهم الشخصية فقط؛ فإن مقاتلي التنظيم أخذوا معهم كل ذخيرة يمكن حملها؛ بل إن بعض الشاحنات حملت أسلحةً وذخائر كاملة.

يقول أبو فوزي إن إحدى الشاحنات تعرضت للكسر بسبب وزن الذخيرة التي حملها مقاتلو التنظيم، مشيراً إلى أنه "لم يكن مجرد إخلاء، كانت هجرة لمقاتلي تنظيم الدولة".

لم تكن القوات الكردية تريد أن تظهر بمظهر من يسهل عملية تنظيم خروج مقاتلي التنظيم؛ لذا لم تسمح بوضع أي لافتات على الشاحنات عندما غادرت المدينة، ورفضت أن يرفَع أي علم من أعلام التنظيم كما نص الاتفاق.

وزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس، قال، في مايو الماضي، إن الحرب ضد تنظيم الدولة "هي حرب إبادة، وإن المقاتلين الأجانب لن يخرجوا أحياء من أجل العودة إلى ديارهم في شمال أفريقيا وأوروبا. لن نسمح بذلك".

إلا أن المقاتلين الأجانب الذين ليسوا من سوريا أو العراق تمكنوا من الانضمام للقافلة التي خرجت من الرقة، وفقاً لأحد السائقين، كان هناك عدد كبير من الأجانب؛ من فرنسا وتركيا وأذربيجان وباكستان واليمن والسعودية والصين وتونس ومصر.

وفي ضوء تحقيق هيئة الإذاعة البريطانية فإن التحالف الدولي اعترف بالجزء الذي قال إنه لعبه للتوصل إلى هذا الاتفاق؛ "وهو السماح لـ250 مقاتلاً من تنظيم الدولة بمغادرة الرقة ومعهم 3500 فرد من أفراد أسرهم".

يقول كول ريان ديلون، المتحدث باسم التحالف الدولي ضد "داعش": "لم نكن نريد أن يغادر أحد، ولكن هذا القرار متعلق بقرارات يتخذها القادة المحليون على أرض الواقع، إن الأمر كان يتعلق بالسوريين؛ فهم الذين يقاتلون ويموتون ويتخذون القرارات المتعلقة بالعمليات".

أحد الضباط الغربيين والذي كان حاضراً لتلك المفاوضات لم يكن نشطاً في عملية التفاوض، بحسب من حضر التفاوض، ورغم ذلك فإن ديلون يؤكد أنه "لم يتبق من المقاتلين الأجانب سوى أربعة، وموجودون في أحد السجون التابعة للقوات الكردية".

القافلة التي غادرت الرقة وعلى متنها مقاتلو تنظيم "داعش" مرت بحقول القطن والقمح شمالي الرقة، ومن بعدها إلى الصحراء، لتغادر الطريق الرئيس وتتجه إلى مسارات عبر الصحراء.

يقول أبو فوزي: "كانت عملية القيادة مع وجود مقاتلي التنظيم أمراً شاقاً، كانوا يضربون السائقين في بعض الأحيان، ويطلقون عليهم أوصافاً مثل كافر وخنزير، كانوا متحدين ولم يهتموا؛ أخبرونا بأنهم سيعودون إلى الرقة بعد إعادة بنائها".

محمود صاحب متجر صغير في إحدى القرى التي مرت بها قافلة "داعش"، نزل وعرف من بعض السائقين أنهم مقاتلون من تنظيم الدولة، تسوقوا من متجره، كانوا شاحبين وجوعى بعد أشهر من القتال، أُفرغت رفوف محله الصغير بعد أن حل به هؤلاء المتبضعون المفاجئون.

يقول محمود: "أحد مقاتلي التنظيم، وهو تونسي الجنسية، سألني لماذا أحلق لحيتي، وقال لي إنهم سيعودون ثانية وينفذون الشريعة، قلت له ليس لدينا مشكلة مع قوانين الشريعة فكلنا مسلمون".

المشكلة الوحيدة التي تعرض لها محمود مع هؤلاء المتبضعين هي إتلاف أحدهم علب السجائر التي كانت موجودة في متجره الصغير.

غادرت القافلة واختفت في غياهب الصحراء، ومعها اختفت آثار الخوف التي كانت تعيشها تلك القرى التي سيطر عليها "داعش" سنوات.

على طول الطريق الذي سارت فيه القافلة يؤكد الناس أنهم كانوا يسمعون صوت طائرات التحالف، وأحياناً أصوات طائرات من دون طيار تحلّق في سماء المنطقة.

أبو فوزي ومن شاحنته أكد أنه شاهد أيضاً طائرات التحالف التي كانت تحلق فوقهم؛ بل إن تلك الطائرات كثيراً ما ألقت القنابل المضيئة ليلاً لتنير الطريق أمام القافلة؛ عندما عبرت آخر قافلة وخرجت صوب الصحراء حلّقت طائرة أمريكية وألقت مشاعل ضوئية لتضيء المنطقة.

وتابع: "كان الطريق مكشوفاً، وكان بإمكان طائرات التحالف قصف القافلة".

لقد تم شراء حرية الرقة بالدم، وكذلك بالصفقات والتسوية، فلقد تم إطلاق تحرير مدنيين محاصرين في المدينة التي اتخذها التنظيم عاصمةً له.

جاء بعد ذلك دور المهربين، الذين أخذوا على عاتقهم تهريب من يرغب من مقاتلي التنظيم وأُسرهم إلى تركيا. أحد المهربين، واسمه عماد، ذكر أنه هرّب خلال أسبوع واحد 20 عائلة إلى تركيا، معظمهم من الأجانب، وبينهم بعض السوريين أيضاً.

يتقاضى عماد وغيره من المهربين 600 دولار أمريكي للشخص الواحد، و1500 للأسرة بأكملها، لا أحد يسأل عن جنسية من يطلب الهرب، فرنسي أو شيشاني أو أمريكي أو أوروبي، وكان البعض يتحدث الفرنسية، وآخر يتحدث الإنجليزية، والبعض الآخر يتحدث لغات أجنبية لا أعرفها، يقول عماد.

وليد، مهرّب آخر على الحدود السورية التركية، يقول: "هناك تدفقٌ كبيرٌ للأسر من أجل الهروب، وخاصةً خلال الأسابيع الماضية، مهمتنا تهريبهم، وهي أسر كبيرة، والكثير منها أسر أجنبية".

العمل بات أكثر صعوبة، يقول وليد، مع تشديد الأمن التركي لإجراءاته على الحدود، ومع ذلك فإن الأمر يبدو مختلفاً مع كبار الشخصيات ضمن تنظيم الدولة، إنهم يمتلكون شبكةً كبيرةً من المهربين، ولديهم شبكاتهم الخاصة، وعادة ما يكونون الأشخاص ذاتهم الذين هربوهم باتجاه سوريا.

ولكن ليس في كل مرة تسلم الجرة، فأبو مصعب حذيفة، أحد مقاتلي التنظيم، تم اعتقاله في أثناء محاولة هروبه باتجاه تركيا، يقول إن تنظيم الدولة لا يعرف الاستسلام ولا يفاوض، ولكن في الرقة كان الأمر مختلفاً، لقد قصفوا المدينة بقوة، 10 ساعات متتالية من القصف قُتل فيها ما بين 500 إلى 600 شخص، فأُجبرنا على التفاوض.

وكانت لقطات فيلمية قد أظهرت قيام طائرات التحالف بشن سلسلة من الغارات على أحد أحياء مدينة الرقة في 11 أكتوبر، ما تسبب في كارثة إنسانية؛ حيث دُمِّر مبنىً كامل يضم نساءً وأطفالاً، وهو ما يبدو أنه كان السبب في كسر مقاومة التنظيم، فبعد 10 ساعات بدأت المفاوضات.

يقول أبو مصعب: "تفاوض فريق من أربعة أشخاص مع مسؤولين محليين من مدينة الرقة، لتعبر بعد ذلك القافلة باتجاه شرقي سوريا قريباً من الحدود مع العراق، لقد فر الآلاف خلال هذا الاتفاق"، كما يؤكد أبو مصعب.

ويتابع: "قررت أنا ومجموعة أخرى أن نفر من خلال تركيا، بعد أن أمّن لنا الاتفاق الخروج من الرقة، استأجرنا مهرّباً، ونقلنا من المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الكردية، المهربون لا يمكن الاعتماد عليهم، لقد تركونا في منتصف الطريق، فألقي القبض علينا".

بعض مقاتلي التنظيم، ومن خلال الاتفاق، فروا باتجاه إدلب، وهناك وجد مقاتلو التنظيم وأسرهم، وخاصة من الأجانب، فرصة للهروب باتجاه تركيا مقابل 4 آلاف دولار للأسرة الواحدة، وبعضهم كُلف مهمة جديدة وهي تنفيذ أعمال إرهابية في بلدانهم، وبينهم فرنسيون ضمن مجموعة أطلق عليها اسم "يوم الحساب".

الكثير من الأسرار ما زالت تحت أنقاض الرقة، فحتى الأرقام التي أعلنت عدد من خرجوا بناء على الاتفاق لم تكن دقيقة، والقوات الكردية لا يمكن بأي حال من الأحوال تصديق ما يعلنونه.

وعلى الرغم من حالة الإنكار للتحالف الدولي حيال الصفقة، فإن الكثير من المعطيات تؤكد أن الكثير من مقاتلي التنظيم الأجانب تمكنوا من الهرب خارج سوريا.

لقد كان الاتفاق محاولة لتقليل الخسائر البشرية، خاصة أن التنظيم كان قد استعد بشكل كبير للمعركة، وهو ما كان سيؤدي إلى ارتفاع التكلفة البشرية لاستعادة المدينة، ولكن الحرب ضد داعش لها هدف مزدوج؛ وهو تدمير ما يسمى "الخلافة" التي أعلنها التنظيم، واستعادة الأراضي التي تحت سيطرته، والثاني منع وقوع الهجمات الإرهابية خارج العراق وسوريا.

وربما تكون الصفقة في الرقة مفهومة لإنقاذ المدينة، وهو أمر يستحق؛ ولكن هذا لا يعني ترك مقاتلي التنظيم يخرجون منها ويعيدون انتشارهم وتنظيم صفوفهم لشن هجمات جديدة، بحسب هيئة الإذاعة البريطانية.