هل سلمت واشنطن الملف السوري لموسكو؟
بعد أن لعبت روسيا دوراً عسكرياً في قلب موازين القوى على الساحة السورية لصالح نظام الأسد، دخلت أيضاً على خط التسويات والمفاوضات السياسية، وسط غياب أمريكي واضح بفعل تركيزه على محاربة تنظيم داعش.
فمناطق "خفض التصعيد" بسوريا، التي اقترحتها موسكو وتم الاتفاق عليها بمؤتمر أستانة (عاصمة كازاخستان) في مايو الماضي، تتكاثر في أكثر المناطق سخونة.
آخر تلك المناطق بعد الغوطة الشرقية بريف العاصمة دمشق، ومناطق سيطرة المعارضة السورية في حلب، كانت حمص؛ فقد أعلنت وزارة الدفاع الروسية، منذ الخميس 3 أغسطس، التوصل إلى اتفاق في العاصمة المصرية القاهرة، حول إنشاء منطقة ثالثة لتخفيف التوتر في سوريا شمالي حمص.
ونقلت وكالة "نوفوستي" الروسية الرسمية للأنباء، عن المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية، اللواء إيغور كوناشينكوف، قوله إن ممثلي وزارة الدفاع الروسية توصلوا مع المعارضة السورية المعتدلة، خلال لقائهم في القاهرة، إلى اتفاق حول نظام عمل المنطقة الثالثة لخفض التصعيد.
هذا الدور الروسي النشط طغى على الدور الأمريكي الذي يتراجع بشكل مطرد، فآخر الانسحابات الأمريكية كان إعلان الرئيس دونالد ترامب، أواخر الشهر الماضي، وقف دعم المعارضة السورية المسلحة، الأمر الذي اعتبره كثيرون يضع سوريا تماماً في "الحضن الروسي"؛ بل ذهب سيناتورات ومسؤولون أمريكيون إلى اعتبار ذلك "خطراً يمس المصالح الأمريكية برمتها في الشرق الأوسط".
- ساحة استنزاف
وعلى الرغم من الانتقادات الأمريكية للدور الروسي، والعقوبات التي تفرضها واشنطن باستمرار عليها؛ احتجاجاً على دورها الداعم لنظام الأسد، فإن مسؤولين أمريكيين يشيدون بالدور الروسي.
آخر تلك الإشادات كانت على لسان المبعوث الرئاسي الأمريكي إلى التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، بريت ماكغورك، الذي أكد الجمعة 4 أغسطس، ضرورة العمل "بشكل وثيق" مع موسكو؛ لضمان القضاء على "داعش"، مشيراً إلى أن هذا الأمر قد "أدى إلى تحديد المناطق الفاصلة بين قوات التحالف وروسيا وشركائها من قوات النظام".
وفي ضوء هذه الظروف، يرى المحلل السياسي عمر الأتاسي، أن "إدارة ترامب، وخلافاً للعديد من المسؤولين، لا سيما في البنتاغون والخارجية، تريد فسح المجال للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في سوريا؛ لأن ترامب شخصياً يعتقد أنه الأقدر على فهم ضبط الفوضى هناك".
وأوضح الأتاسي، أن "روسيا تملك أدوات الضغط والتأثير على الأسد وإيران ومليشياتها، وهذا برز جلياً في أثناء انسحاب المعارضة من حلب وعارضت المليشيات الإيرانية ذلك، لكن تدخل موسكو أنهى تلك العملية وفق المتفق عليه مع المعارضة، وهذا الأمر شجع ترامب أكثر على ترك زمام الأمور في سوريا لروسيا؛ لكونه أيضاً لا يريد إنفاق أي أموال أو جهد عسكري في ساحة يُنظر إليها على أنها (ساحة استنزاف)".
لكنه أشار في الوقت نفسه، إلى أن "واشنطن قادرة على كبح جماح موسكو في سوريا، باستخدامها أوراق ضغط كثيرة تمتلكها في عدد من المناطق حول العالم"، مستبعداً أن يجري هذا التحول في ظل الظروف الراهنة و"الغرام الذي يعيشه ترامب بنظيره الروسي بوتين".
- بين قوتين
وفي وقت تراخى فيه المجتمع الدولي، لا سيما الولايات المتحدة، أخذت روسيا منذ عام 2015 زمام المبادرة؛ لأن لها مصالح عديدة مرتبطة بسوريا، منها أنها لا تريد فقدانها كعمق استراتيجي خارجي لها بعد أن فقدت ليبيا والعراق؛ ما جعل روسيا صاحبة الكلمة الأوحد اليوم في سوريا.
فبحسب مراقبين، لن تجد في واشنطن اليوم من يتحدث عن نفوذ نظام بشار الأسد أو المعارضة السورية وحتى الأطراف الإقليمية الداعمة لهم في سوريا؛ بل حديث الجميع في وقت الجد ينصبّ على الدور الروسي هناك، كما لم تعد تنطلي الانتقادات والمواقف الأمريكية على المعارضين السوريين، الذين فقدو الأمل -أو يكادون- من أي خطوة جدية لواشنطن تصب في صالحهم، على غرار ما قامت به عدوتهم موسكو.
وفي هذا السياق، يوضح الدكتور باسل الحاج جاسم، الخبير في الشؤون الدولية، أن سوريا "تعيش اليوم عدة مشاهد؛ فقد تكون روسيا لها سيطرة ونفوذ أكبر في مناطق محددة، وربما أسهم في ذلك انغماسها أكثر من غيرها في الساحة السورية".
وأضاف : "لكن مع ذلك، كشف ما فضحته وسائل إعلام تركية، مؤخراً، عن حجم الوجود العسكري الأمريكي داخل الأراضي السورية، كما كشف أن هناك وجوداً أمريكياً بحجم يشير إلى أن الموضوع أكبر من مجرد حرب على ما تسمى داعش".
وتابع الحاج جاسم: "إذا نظرنا بشكل آخر، نرى أن كل المنابر التي تجري فيها محادثات دولية حول سوريا، كانت بمبادرة روسية، من جنيف وصولاً إلى أستانة، ولا يمكن إغفال حقيقة اختلاف نظرة كل من موسكو وواشنطن للحل في سوريا".
ويوضح الحاج جاسم الفرق بين وجهتي النظر؛ فالروس -بحسب قوله- يؤكدون حرصهم على وحدة أراضي سوريا، في حين أن الأمريكان طريقة تعاملهم مع هذا الملف، منذ البداية، "تثير الكثير من التساؤلات، وليس آخرها اختيارهم مجموعة انفصالية ودعمها بدلاً من المعارضة التي تصفها هي بالمعتدلة (في إشارة إلى دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية)".
ولفت إلى أن مناطق خفض التوتر، المستفيد الأول والأخير منها هو المواطن السوري، "فقوات النظام، مع الدعم الروسي وضعف القوى المعارضة، بالإضافة لتشتتها، تجعل أي معركة قادمة بينهم معروفة النتائج مسبقاً"، مشيراً إلى أنه "قد تكون هناك إيجابية أخرى لاتفاق خفض التصعيد، وهي إنقاذ بعض تلك المناطق من تقدم المليشيات الانفصالية والسيطرة عليها".