صناعة الإعلام: عام الصعود والهبوط

عاماً للصعود والهبوط بالنسبة لصناعة الإعلام العالمية والعربية
عاماً للصعود والهبوط بالنسبة لصناعة الإعلام العالمية والعربية

يتوقع جاستين سميث، الرئيس التنفيذي لمجموعة «بلومبرغ» للإعلام، أن تكون هذه السنة عاماً للصعود والهبوط بالنسبة لصناعة الإعلام العالمية والعربية، ومع ذلك فإنها تعتبر أيضاً الوقت الأفضل لاقتناص الفرص المتاحة من أجل الاستثمار.


يقول سميث :«هي سنة صعود وهبوط..يوجد الكثير من التحديات ولكنني أعتقد أن أهم شيء هو توفر حجم الفرص العديدة الآن حتى وإن بدا الوضع مخيفاً جداً وهناك أطنان من التغيرات والشكوك. هذا هو الوقت الأفضل للمستثمرين في قطاع الإعلام».

ووفقاً لتحليلاته، يتوقع سميث أيضاً المزيد من الانهيار للصحافة التقليدية والمطبوعة حول العالم وفي منطقة الشرق الأوسط التي شهدت بوادر ذلك بالفعل مع إغلاق عدد من المنتجات الإعلامية من مجلات وصحف، واستمرار شعبية التلفزيونات في المنطقة على عكس هبوط شعبيتها في الولايات المتحدة الأميركية، ولأول مرة في تاريخها، لصالح الشعبية الطاغية لمنصات الفيديو عبر الإنترنت مثل «OTT» حيث بدأت تستحوذ على المشهد الإعلامي.

يوضح سميث :«أعتقد أن استحواذ المنصات الرقمية للفيديو يسير ببطء في منطقة الشرق الأوسط، فلا يزال للتلفزيون شعبية كبرى على عكس الولايات المتحدة الأميركية. المحطات الإذاعية الأميركية حالياً تمر بمرحلة ضغط كبير فيما عدا الأسواق الريفية التي يتم فيها قيادة السيارات لفترات طويلة. أيضاً،العالم الرقمي في بعض الأسواق العالمية لا يزال قطاعاً صغيراً من الأعمال بينما أصبح قطاع أعمال كبير في أسواق أخرى».

الهند ..مثالاً
ويضرب سميث مثالاً بالقطاع الإعلامي في الهند التي تنمو فيها الصحف التقليدية بنسبة 25 % بينما تحتضر فيها صناعة المجلات، ويعاني فيها الإعلام الرقمي رغم كبر حجمه لأن المعلنين يرفضون شراء أية مساحات إعلانية به لدرجة أن هذه المنصات خفضت أسعارها إلى مستويات مخيفة. «أعتقد أنه هناك وجه تشابه بين منطقة الشرق الأوسط والهند في ما يتعلق بصغر حجم الإعلام الرقمي كنموذج للأعمال».

أما في بقية العالم، فيرى سميث ارتفاع النمو بقوة في منصات التواصل الاجتماعي بسبب الفرص الهائلة المتوفرة على عكس الولايات المتحدة الأميركية  التي استنفذت الفرص بسبب النضج التام لمنصتي «فيس بوك»و«جوجل» كذلك الأمر بالنسبة لـ«تويتر» و«سناب تشات».

في رأيه أيضاً، سيشهد المشهد الإعلامي صعوداً هائلا في منصات التواصل الاجتماعي الإقليمية أو الوطنية في أوطانها والتي تأتي بابتكارات من خارج وادي السيليكون ولا تعتمد على ابتكارات أميركية مثل «لاينLine» باليابان،و«وي تشات Wechat» بالصين، و«تيليغرام Telegram» في روسيا.

يستطرد سميث قائلاً: «أعتقد أن هذا الاتجاه آخذ في الصعود، أي العديد من الابتكارات خارج الولايات المتحدة الأميركية، وقد تتمكن الصين من تصدير ابتكاراتها في التكنولوجيا للخارج لأنها أصبحت متطورة في مجال الـ«هارد وير» وإنتاج الهواتف الذكية الأرخص سعراً مثل«زايوميXiomi»،و«هووايHuawei» بتقنيات متقدمة، وفي مجال الـ«سوفت وير» أيضاً والمنصات الاجتماعية مثل«وي تشات Wechat»،المنتج الرئيسي لشركة «تنسنتTencent»و«وايبوWeibo»                        و« علي بابا Ali Baba» في مجال التجارة الإلكترونية».

واقع الإعلام الرقمي العربي
ولكن كيف يُقيم سميث واقع الإعلام الرقمي بمنطقة الشرق الأوسط؟ يرى سميث أن بعضاً من ملامحه تتشابه مع ما يحدث عالمياً وخاصة في ما يتعلق بصعود استخدام الهواتف الذكية والتواصل الاجتماعي، فهذه توجهات عالمية لا تقتصر على مكان محدد في العالم، حيث تعد ثورة الهواتف الذكية والإعلام الاجتماعي أبرز التغيرات التي تحدث الآن في قطاع أعمال الإعلام.

يقول سميث :«العام2007 كان حافلاً بالتغيرات،فهو العام الذي أطلق فيه الراحل ستيف جوبز جهاز هاتف آيفون، والعام الذي انطلق فيه أيضاً «فيس بوك»و«تويتر». خلال 12 شهراً حينها، تغير واقع الإعلام وما وراءه ربما للأبد. هذا التطور غير العالم ومن ضمنه منطقة الشرق الأوسط».

وتماماً مثل الاقتصادات العالمية الأخرى، تطور الإعلام الرقمي في ما يتعلق بالمستهلكين، وأصبح هناك من يقدم خدمات إنترنت بنطاقات تردد عالية سريعة وهناك من يقدم ذلك بنطاقات أقل سرعة «ورغم أن المستهلكين توجهوا نحو الإعلام الرقمي سريعا،ً إلا أن الإعلام الرقمي كنموذج للإعمال لم يتطور بعد ولا يزال في بداياته. لا أعتقد أن الإعلام الرقمي ذو ربحية في هذه المرحلة بمنطقة الشرق الأوسط. لا يزال القطاع جزءاً صغيراً من الكعكة ولكن بالتأكيد تمكنت «فيس بوك» و«جوجل» من بناء نموذج أعمال كبير في القطاع بمنطقة الشرق الأوسط.

ويرى سميث أن التحول الرقمي الذي حدث للمستهلكين في منطقة الشرق الأوسط ومحدودية تطوره كنموذج للأعمال، يتشابه في جزئية مع المشهد الإعلامي العالمي، حيث يواجه الناشرون الهاربون من انخفاض عوائد الإعلانات إلى الإعلام  الرقمي حاجزاً كبيراً ألا وهو استحواذ المنصتين الرقميتين «جوجل» و«فيس بوك» على الإعلانات الرقمية بملايين الدولارات. فمثلاً حصتهما في الولايات المتحدة الأميركية،تقدر بـ85 % من عوائد الإعلانات الرقمية مقابل 15 % للجميع.

سيطرة «فيس بوك» و «جوجل»
كيف يمكن التغلب على هذا الاستحواذ إذاً؟ يجيب سميث :«هذا ما يتحدث عنه الجميع في الولايات المتحدة الأميركية الآن.أغلبية عوائد الإعلام الرقمي، وأغلبها يأتي فعلياً من الهواتف الذكية، تستحوذ عليه «فيس بوك»و«جوجل».كيف يمكن لبقية الإعلام أن ينافس عندما تستحوذ تلك الشركتان على 85 % من الإعلانات وكيف يمكنهم التنافس على حصة تبلغ 15 % فقط؟».

وللإجابة على هذا الأسئلة، يشدد سميث على أن قطاع الإعلامي عليه أن يسأل نفسه أولاً لماذا تصل تلك الشركتان إلى هذه النسبة؟ في رأيه السبب الأول يتعلق بالمعلومات الدقيقة والمفصلة التي يملكونها عن المستهلكين، والسبب الثاني يتعلق بحجمهم الكبير،فهم قادرون على الوصول إلى مختلف أنواع الناس، فلديهم بيانات أفضل وعوائد أكبر على الاستثمار وعلى نطاق واسع.

يقول سميث :«هناك مقولة لمتخصص في الإعلان بالقرن الـ19 تقول أعرف أن  إعلاني سيؤدي إلى نتيجة  ولكن لا أعلم أي جزء فيه سيقوم بذلك. لأول مرة تمكنتا «جوجل»و«فيس بوك» من معرفة هذا الجزء. تستطيع الشركتان ربط سلوك المستهلك بالإنفاق الإعلاني، فمثلاً إذا اشتريت إعلاناً عبر «آووردزAdwords»  بـ«جوجل» بالقرب من البحث عن كلمة (دبي) مثلاً أو (الأعمال) أو (فنادق 5 نجوم للأعمال) سيظهر للمستهلك في كل مرة يطبع جملة (السفر إلى دبي) أو(فندق 5 نجوم) اسم (فندق ريتز كارلتون) مثلاً، ويستطيع أن يحجز غرفته عن طريق ذلك. في كل مرة ينفق «ريتز كارلتون» مثلاً على إعلان رقمي،سيعرف أن هذا الدولار الذي أنفقه أتى بنتيجة وجلب له حجزاً جديداً لغرفة».

ويضيف :«لقد اعتُبر هذا تقدماً ثورياً رائعاً لأن الشركات أصبح لديها فجأة المعلومات التي تبين أن هذا الشخص الذي قامت بالإعلان له في هذه المنصة قام فعلياً بشراء شيء ما. هذا الأمر يعد إنجازاً بالنسبة لأي مدير مالي أو مدير للتسويق في الشركات أو وكالات الإعلان لأنه يستطيع أن يثبت للرئيس التنفيذي الذي يسأله دائماً عن  جدوى الإنفاق الضخم على التسويق، بالمعلومات الموثقة أن كل دولار يتم إنفاقه يجلب عميلاً للشركة».

«فيس بوك» .. منصة للأخبار الكاذبة؟
وبعيداً عن السيطرة الاحتكارية على عوائد الإعلانات الرقمية، يشكو الكثيرون حول العالم من الارتفاع الهائل في نشر الأخبار الزائفة على منصات الإعلام الرقمي،فلما يريد المسوقون وضع إعلاناتهم في تلك المنصات وبجانب محتوى زائف؟

يجيب سميث :«هذا الأمر يكثر الحديث عنه وتتم مناقشته عالمياً، وفي الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة كان لدينا مثال واضح على هذا، وظهرت العديد من الأدلة التي تشير إلى نشر العديد من الأخبار المزيفة وبشكل احترافي لا هاوٍ، حيث تأسست شركات بغرض الترويج للمعلومات والأخبار الكاذبة انطلاقاً من أيديولوجيا سياسية ما».

ويستطرد قائلا :«أعني بالأيديولوجيا السياسية الترويج لدونالد ترامب أو هيلاري كلينتون. تجارياً، قامت الشركات بتزييف أخباراً كانت مثيرة وفاضحة جداً، وعندما نقر القارئ عليها لقرائتها، أدى ذلك إلى ربح أموال بسببها في المنصات الرقمية. مثال على ذلك، قصة زائفة ادعت استخدام هيلاري كلينتون لغرفة خلفية بمطعم بيتزا من أجل الاعتداء على الأطفال، أدت إلى إطلاق نار في المطعم. ذهب أحد الأشخاص اليمينيين المتطرفين إلى المطعم وأطلق  ناراً، وبعد القبض عليه سألته الشرطة لماذا فعل ذلك فقال لأنه قرأ أن هيلاري تستخدم المطعم في الاعتداء على الأطفال».

ويشدد سميث :«إذاً الفكرة هنا ليست فقط في نشر الأخبار الكاذبة بل بالتأثير على الانتخابات. ربما يستقي ثلث الأميركيين أخبارهم من «فيس بوك» ويعتبرونها مصدراً رئيسياً للأخبار. هناك خيط رفيع بين ما يسببه نشر الأخبار الكاذبة في المنصات الاجتماعية، وما يحدث في «فيس بوك»و«جوجل». أرى أن هذا يعطي فرصة كبيرة للناشرين المتميزين للتنافس بفاعلية، ما سيساعدهم على ترويج علاماتهم التجارية. بشكل عام يرتبط ترويج العلامات التجارية بالمحتوى ولا يريد المعلنون التواجد في بيئة زائفة أو خبيثة، وأعتقد أن الكثير من المسوقين يذهبون لـ«فيس بوك و«جوجل» بسبب الأرباح وعوائد الاستثمار، ولكني أعتقد أيضاً أنهم سيبدأون يفكرون مرتين أن الأرباح ليست كل شيء وسيسألون أنفسهم عن جدوى التواجد في بيئة مؤذية لعلاماتهم التجارية حتى إذا كانت تحقق عائداً على الاستثمار».

المستقبل للإعلان المبني على المحتوى
ومثلما ستتغير الصورة بالنسبة للعلامات التجارية التي تلجأ للإعلام الرقمي من أجل الأرباح، يرى سميث أن مستقبل صناعة الإعلان القادم هو لتلك الإعلانات المبنية على المحتوى مقارنة بالإعلانات التقليدية، رغم أن التحدي يكمن في كيفية إعداد محتوى مثير ليس صحفياً وليس خادعاً في نفس الوقت.

يوضح قائلاً :« أعتقد أن هذا النوع من المحتوى المعد خصيصاً للإعلان هو المستقبل. الإعلان أصبح رقمياً والإعلام الرقمي أصبح المحتوى. لهذا أعتقد أننا في بداية مرحلة سيصبح فيها أغلب وأنجح الإعلانات الرقمية لتلك المبنية على المحتوى. نرى علامات تجارية تعاني كثيراً من التكيف مع هذا المفهوم، والتحدي الحقيقي حالياً هو كيفية إنتاج محتوى مثير لا يدعي أنه  محتوى تحريري صحفي ولا يخدع القارئ أو المشاهد.

على المعلنين أيضاً أن يستوعبوا تغير العصر، فلم يعد المشاهد يتابع برنامجه المفضل في التلفزيون التقليدي ويذهب إلى المطبخ عندما يُعرض الإعلان ثم يعود لمتابعته. المشاهد يتابع ما يريده في الإعلام الرقمي على شاشة صغيرة جداً، ويحرك الأشياء سريعاً بإصبعه،كما تدنى مستوى انتباهه، لذلك على المعلنين ابتكار محتوى مثير جداً لجذبه».

ومع سؤالنا حول التطوير الحالي لتقنية  5G بالهواتف الذكية،يؤكد سميث على أن أية تطورات في نطاقات الترددات العالية تعتبر مفيدة جداً لابتكار المحتوى والمعلنين على حد سواء. «أنظرِ للتطور الذي حدث للفيديوهات عبر الإنترنت منذ 5 إلى 6 سنوات. أصبح الفيديو أساسياً بعد أن كانت تجربة مشاهدة فيديو على الإنترنت سيئة جداً.حالياً، وحتى وإن لم يكن لديكِ شبكة « واي فاي» يمكنكِ مشاهدة الفيديو على الشبكة العادية للهاتف الذكي والتمتع بتجربة رائعة. أعتقد أننا سنشاهد تطوراً في مجال الفيديو والتقنيات المختلفة مثل الواقع الافتراضي virtual reality والواقع المعزز augmented reality إلى جانب الذكاء الاصطناعي الذي سيدعم كل هذا.

هل غيّر الإعلام الرقمي العمل الخيري؟
ومثلما يدفع الإعلام الرقمي المعلنين والمؤسسات الإعلامية إلى تغيير استراتيجياتها، يدفع أيضاً إلى تغيير ماهية العمل الخيري على مستوى العالم وإن لم يغيره كثيراً على مستوى منطقة الشرق الأوسط. فمثلاً ارتفعت التبرعات عبر الرسائل النصية في بريطانيا بنسبة 30 %.

يعلق سميث قائلا ً:«نعم...أعتقد أن هذا الأمر يحدث في الصين أيضاً عبر شركة «تن سنت Tencent» المطورة  لـ«وي تشات Wechat» وهي المنصة الاجتماعية الأشهر هنا. الناس يؤمنون بأنك إذا أردت أن تستشف مستقبل «جوجل» أو     «فيس بوك» أو«سناب تشات» أو«واتس أب» عليك أن تنظر إلى«وي تشات Wechat». يقدر حجم المشتركين في المنصة الصينية بـ800 مليون مستخدم نشط، وما فعلته هذه المنصة هو الجمع بين وظائف ومزايا كافة المنصات الاجتماعية المختلفة في مكان واحد، فإذا كان «إنستغرام» لتشارك الصور، وكان «فيس بوك» للتواصل و«واتس أب» للتراسل النصي و«تويتر» للأخبار والمحتوى القصير المختصر، فقد جمع «وي تشات Wechat» كل مزايا هذه المنصات سوياً.

ويقول :«في الولايات المتحدة الأميركية لدينا منصةVenmo للدفع الإلكتروني الآمن والتي يستخدمها الشباب بكثرة في تحويل الأموال من حساباتهم لحسابات الآخرين. الصينيون قاموا بدمج ذلك في «وي تشات Wechat» فأصبح الناس يدفعون كل شيء عبر المنصة الاجتماعية، ويحولون الأموال بينهم عبرها ويتراسلون عبرها ويشاهدون الفيديوهات عبرها. إنها كل شيء في شيء واحد، فهي المنصة الإعلامية الاجتماعية المتكاملة لكل تفصيلة رقمية يحتاجها الناس».

ويروي سميث هنا قصة مثيرة حول شعبية «وي تشات Wechat» في الصين التي دفعت الكثيرين من الصحفيين الصينيين المشاهير إلى إنشاء صفحات خاصة بهم على المنصة لنشر محتوياتهم، وهم لا يقومون بذلك مقابل عوائد إعلانية بل عبر التبرعات التي يعطيها القراء لهم.«أي عندما يقوم مليون شخص بقراءة مقال جيد جداً لأحدهم، يتبرع جزء من هؤلاء القراء  ـ مثلاً بـ 5 ريمنبيني، وهي ما يوازي الفلس في العملة الصينية اليوان،مباشرة  عبر الموبايل إلى حساب الصحفي صاحي المقال الذي أعجبه.