مقال بقلم د/ ياسر حسان: هل كان ميخائيل جورباتشوف مفتريًا أم مُفترىً عليه؟
نشرت منذ يومين خبراً صغيراً عن وفاة ميخائيل جورباتشوف آخر رؤوساء الاتحاد السوفيتي، وفوجئت بكم من الانتقاد للرجل غريب ووصل الحد إلى اتهامه بالعمالة للغرب، والحقيقة أن جورباتشوف لم يكن هو الزعيم السوفيتي الوحيد الذي اتهم بالعمالة؛ فمؤسس الاتحاد السوفييتي فلاديمير لينين اتهم بالعمالة لألمانيا وأن الشيوعية كانت مشروعًا ألمانيًا زرعته في روسيا لمحاولة إضعافها عن طريق لينين ورفاقه.
لكن لفهم هل كان ميخائيل جورباتشوف مفتريًا أم مُفترىً عليه علينا معرفه عدة حقائق جيوسياسية في البداية:
- الاتحاد السوفيتي كان اتحادًا فيدراليًا، مثلما الحال في الولايات المتحدة الأمريكية تماما، لكن في الحقيقة بدأ الاتحاد السوفيتي بعد قيام الولايات المتحدة بأكثر من 140 سنة، وسقط قبل أن يكمل 75 عامًا، بينما ما تزال الولايات المتحدة الأمريكية تقود العالم إلي الآن. إذًا هناك عوامل أدت لذلك أكبر من تحميلها لشخص واحد مثل جورباتشوف.
- تأسس الاتحاد السوفيتي (1917-1991)، وتوسعت بضم 15 جمهورية فصارت أكبر دولة في القرن العشرين. وصلت مساحة الاتحاد السوفيتي إلى حد أنها كانت تبلغ وحدها نحو 15% من اليابسة على الكرة الأرضية، مع حدود طولها 10 آلاف كلم، وعرضها تراوح بين 3000-4500 كلم، وكانت تحده 12 دولة، وتحيط به ثلاثة محيطات وبحارها المتفرعة منها.
- وبنظرة سريعة نجد أن الاتحاد السوفيتي لم تكن له حدود دولية ثابتة منذ نشأته، إذ تغيّرت حدوده بتغير الزمن وتعاقب الأحداث التاريخية حيث قاربت حدوده في أعقاب الحرب العالمية الثانية حدود الإمبراطورية الروسية السابقة خاصة بعد ضم مساحات شاسعة من الأراضي المجاورة لأراضيه والتي تمثّلت في دول البلطيق وشرق بولندا وبعض مناطق شرق أوروبا، وبذلك كان الاتحاد السوفيتي قد استعاد كامل حدود الإمبراطورية الروسية ماعدا باقي الأراضي البولندية والفنلندية وألاسكا.
- عندما انهار الاتحاد السوفيتي كان يبلغ عدد سكان الاتحاد السوفيتي عند انهياره عام 1991 حوالي 293 مليون نسمة يتوزعون على 120 قومية عرقية ولغوية من 15 دولة. وهذا يوضح الاختلاف الديموغرافي الشديد داخل نسيج هذه الدولة القصيرة العمر.
- تقاسمت هذه الدولة الهيمنة على العالم مع الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1991.. استند الاتحاد السوفيتي إلى نظام اشتراكي في الاقتصاد، وشيوع سياسي. نظرياً كان يفترض أن يكون هذا النظام فعالا وعادلا، لكنه في الواقع كان عكس ذلك تماماً، فعدا أن هذا النظام حرم مواطنيه من أهم سمات الإنسانية، وهي حرية التملك، والحرية في اختيار الدين حيث قاوم الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا مقاومة عنيفة، فالنظام الاشتراكي لم يكن فعالًا اقتصاديا رغم أن الكثير من الناس في الاتحاد السوفيتي لم يكونوا فقراء جدًا، لكنهم ببساطة لم يتمكنوا من الحصول على السلع الأساسية لأنه لم يكن هناك ما يكفي منها. حيث كان العرض دائماً أقل من الطلب وكان المال غالباً بلا قيمة.
- النظام السياسي في الاتحاد السوفيتي لم يكن أبدًا بجودة ومتانة نظيره الأمريكي، حاول ستالين نحو أمجاد سلفه لينين، وانقلب بريجنيف علي خروشوف ووضعه تحت الإقامة الجبرية منبوذًا حتى وفاته، ثم أدخل البلاد في حالة من الركود الطويل دام 18 سنة تقريبا. بعد وفاة بريجنيف تولى اثنان من الرؤساء كبار السن هما يوري أندروبوف، وقسطنطين تشيرنينكو وقد توفي الاثنان خلال ثلاث سنوات، ولذلك اختار مجلس السوفيت الأعلي أصغر اأعضائهم سنا وهو ميخائيل جورباتشوف.
- عندما تولى جورباتشوف وجد دولة منهارة اقتصاديًا ومنقسمة داخليًا نتيجة الأخطاء السياسية لمن سبقوه، ونتيجة لسباق مسلح كسبته أمريكا اقتصاديا ولا يمكن الاستمرار فيه للأبد.. نفذ خطة إصلاح عرفت باسم البيريسترويكا (إعادة البناء والهيكلة) والجلاسنوست (الانفتاح وحرية التعبير) يقول البعض إنها السبب في زوال البلاد. ويقول آخرون إن الاتحاد السوفيتي كان غير قابل للاستمرار بسبب بنيته المتهالكة.
- لكن الحقيقة أن سياسة الجلاسنوست، سمحت لأبناء العديد من الجمهوريات الأخرى بمعرفة القمع القومي الذي تعرضت له سابقاً مثل المجاعة الأوكرانية في الثلاثينيات من القرن الماضي، والاستيلاء على دول البلطيق وغرب أوكرانيا بموجب اتفاقية الصداقة السوفيتية النازية، والترحيل القسري للعديد من المجموعات العرقية خلال الحرب العالمية الثانية، أدت هذه الجرائم والأحداث الأخرى إلى تعزير النزعة القومية والمطالبة بتقرير المصير.
الواقع حاليًا أن فلاديمير بوتين ما زال يحلم بعودة الاتحاد السوفيتي، تماما كما يحلم أردوغان بعودة الخلافة التركية، لدرجة أن بوتين عقب على تفكك الاتحاد السوفيتي بهذه الكلمات "من لا يراوده الأسى لغياب الدولة السوفيتية إنسان بلا قلب، ومن يعاوده التفكير في إمكانية إعادة مثل هذه الدولة إنسان بلا عقل".. وفي النهاية وجهة نظري هي أن ميخائيل جورباتشوف لم يفعل شيئًا سوى أنه أطلق رصاصة الرحمة على جسد متهالك، ليوسع الطريق لميلاد وريث جديد هي "روسيا".. لم يحسن بوتين للأسف استغلال إمكانياتها الهائلة على الأقل اقتصاديًا حتى الآن.